مكان ومكين... مقام إبراهيم شريعة توقيفية

اطلعت على الموضوع الذي أثارته صحيفة مكة المكرمة يوم الأربعاء الماضي بتاريخ 11 صفر 1436 عن مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام بعنوان: (نقل مقام إبراهيم بين مؤيد ومعارض ومحايد)، وما تبع ذلك من سيل من الآراء في وسائل الإعلام المختلفة بين مؤيد ومعترض وساخط أيضا، واختلطت فيها الدوافع الفكرية من نظرات هندسية وحركية واجتهادات شرعية مختلفة، ورأيت أن نستوضح معا هذا الأمر بطريقة علمية مبسطة، حتى نضع الأمر في نصابه بإذن الله

اطلعت على الموضوع الذي أثارته صحيفة مكة المكرمة يوم الأربعاء الماضي بتاريخ 11 صفر 1436 عن مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام بعنوان: (نقل مقام إبراهيم بين مؤيد ومعارض ومحايد)، وما تبع ذلك من سيل من الآراء في وسائل الإعلام المختلفة بين مؤيد ومعترض وساخط أيضا، واختلطت فيها الدوافع الفكرية من نظرات هندسية وحركية واجتهادات شرعية مختلفة، ورأيت أن نستوضح معا هذا الأمر بطريقة علمية مبسطة، حتى نضع الأمر في نصابه بإذن الله

الأحد - 08 فبراير 2015

Sun - 08 Feb 2015

اطلعت على الموضوع الذي أثارته صحيفة مكة المكرمة يوم الأربعاء الماضي بتاريخ 11 صفر 1436 عن مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام بعنوان: (نقل مقام إبراهيم بين مؤيد ومعارض ومحايد)، وما تبع ذلك من سيل من الآراء في وسائل الإعلام المختلفة بين مؤيد ومعترض وساخط أيضا، واختلطت فيها الدوافع الفكرية من نظرات هندسية وحركية واجتهادات شرعية مختلفة، ورأيت أن نستوضح معا هذا الأمر بطريقة علمية مبسطة، حتى نضع الأمر في نصابه بإذن الله.

فإذا أردنا أن نبدأ البحث في هذا الموضوع سنجد أنه موضوع شرعي في المقام الأول لقوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)(سورة البقرة / 125)، ويجب أن يوصف التوصيف الدقيق من الناحية الشرعية حتى يمكن الانطلاق والبناء على هذا المفهوم، فنحن هنا نتحدث عن الحرم، وبيت الله الحرام، وبالتحديد ما أشير إليه في الآية: (فيه آيات بينات مقام إبراهيم)، (سورة آل عمران / 97)، فالآية توضح أن مقام إبراهيم من الآيات البينات التي جعلها الله للناس في بيته الحرام، وفي هذا الخصوص عند الحديث عن مكان المقام فالسرد التاريخي الشرعي يأتي على مرحلتين مهمتين:
المرحلة الأولى: هي فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما غير مكان المقام من كونه لصيقا بالكعبة المشرفة إلى مكانه الحالي، وذلك في يوم الفتح بعد نزول الآية الكريمة (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).

روى الحافظ أبوبكر بن مردويه بسنده عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام، فأنزل الله: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، فكان المقام عند البيت، فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا، قال مجاهد: وكان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن.
(الدر المنثور 1/290، تفسير ابن كثير 1/172)، وهذا فعل مشرِّع، والدليل على أنه فعل تشريعي أنه لم تكن فيه علة الازدحام، وإنما هو فعل فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليحدد المكان الذي يوضع فيه المقام، وهو أمر تعبدي، والنظرة العلمية المنصفة توضح أن المكان محدد ولا يمكن نقله.

أما المرحلة الثانية: فهي ما حصل في عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عندما جاء سيل كبير سمي بسيل (أم نهشل) وجرف حجر المقام معه إلى مكان بعيد فجاؤوا به وربطوه في أستار الكعبة حتى يصل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ويضعه في موضعه، وقد أورد الأزرقي القصة كاملة في كتابه "تاريخ مكة" بسنده عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي، عن أبيه عن جده، قال: كانت السيول تدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة الكبير قبل أن يردم عمر بن الخطاب الردم الأعلى، وكان يقال لهذا الباب باب السيل، قال: فكانت السيول ربما دفعت المقام عن موضعه وربما نحته إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيل في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقال له سيل أم نهشل، وإنما سمي بأم نهشل لأنه ذهب بأم نهشل ابنة عبيدة بن أبي أحيحة سعيد ابن العاص، فماتت فيه، فاحتمل المقام من موضعه هذا، فذهب به حتى وجد بأسفل مكة، فأتى به فربطه إلى أستار الكعبة في وجهها، وكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فأقبل عمر فزعا فدخل بعمرة في شهر رمضان وقد غبي موضعه وعفاه السيل، فدعا عمر بالناس فقال: أنشد الله عبدًا عنده علم في هذا المقام، فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي: أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك، فقد كنت أخشى عليه، فأخذت قدره من موضعه إلى الركن، ومن موضعه إلى باب الحجر، ومن موضعه إلى زمزم بمقاط وهو عندي في البيت.

فقال له عمر: فاجلس عندي، وأرسل إليها، وأتي بها، فمدها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا، فسأل الناس وشاورهم فقالوا: نعم هذا موضعه، فلما استثبت ذلك عمر رضي الله عنه وحق عنده، أمر به فأعلم ببناء ربضه تحت المقام ثم حوله، فهو في مكانه هذا إلى اليوم (أخبار مكة للأزرقي 2/33 – 34).

فهذا الموقف وما فعله سيدنا عمر رضي الله عنه من اجتهاد وحرص وتدقيق في صدق الرجل رغبة منه رضي الله عنه في أن يوضع حجر المقام في نفس الموضع دونما تغيير، يؤكد فهم سيدنا عمر لتشريع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهناك سابقة في العصر الحديث في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز رحمه الله وتاريخ هذه السابقة يعود للعام 1954م عندما أصبح مبنى المقام بشكله القديم يعوق الطائفين، بعد أن زادت الأعداد خصوصا في مواسم الحج والعمرة وفي رمضان، فاقترح بعض العلماء اجتهادا تغيير مكان المقام ونقله إلى الخلف بجوار الرواق ليفسح للطائفين واتخذت التدابير فعلا، وبني مقام بديل بجوار الرواق، وحدد اليوم الذي سيقوم فيه الملك سعود بنقله إلى المبنى الجديد وهو على غرار المبنى القديم، وعندما سمع فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي عن ترتيبات النقل ورأى المقام الجديد (وقد كان في ذلك الوقت مدرسا بالمعهد العلمي السعودي بمكة)، أبرق برقية طويلة للملك سعود وأصَّل فيها تأصيلا شرعيا دقيقا أن المقام مكان ومكين، أي أن مكانه محدد ولا يجوز نقله إلى أي مكان آخر، وأن الذين احتجوا بفعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جانبهم الصواب فهو عليه الصلاة والسلام رسول ومشرع وليست هذه حجة لكي نستند إليها وننقل المقام من المكان الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد كلف الملك سعود العلماء بدراسة ما ورد في برقية الشيخ الشعراوي، وتوصلوا إلى صواب رأيه وبالفعل قام الملك رحمه الله كما هي عادة الأسرة السعودية من اتباع للحق وخدمة الإسلام والمسلمين فسدد الله خطاه وأبقى المقام على حاله.

ثم في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله أثير الموضوع مجددا فأصدر الملك فيصل أمره بتخفيف المبنى القديم وأزال الزوائد الموجودة حول المقام وعمل له غطاء من البلور وأحيط هذا الغطاء بحاجز حديدي، وعملت له قاعدة من الرخام وهدم المبنى الجديد وذلك في رجب عام 1387هـ واستطاع الطائفون أن يؤدوا الطواف براحة ويسر، وقد كان هذا أيضا من مقترحات الشيخ الشعراوي رحمه الله.

وهنا يجب أن نفهم أن هناك أمورا شرعية جاءت محددة لحكم إلهية، قد نجتهد في فهم بعضها ويغيب عنا فهم بعضها، فمثلا: الحجر الأسود هل يمكن أن ننقله إلى ركن آخر مهما اقتضت الضرورة؟ قطعا لا.
.
لأنه أمر شرعي محدد، كذلك المشاعر وعرفات هي محدودة بحدود شرعية محكمة فهل لتضاعف الأعداد واقتضاء الضرورة يحق أن نغير الحدود الشرعية ونضاعفها؟.
.
قطعا لا.
.
لأن هذا أمر شرعي محدد يجب أن نتعامل معه كما هو، وفيه من الحكم ما علمناه وما لا نعلمه وهذا يجب أن يكون هو منطلق اعتقادنا.

والحمد لله أننا نعيش في عصر تطورت فيه العلوم، وأصبحنا نجد لمعظم المشكلات حلولا علمية وعملية تغني عن الخوض في مثل هذه المسائل، ونحن نشهد توسعة كبيرة وغير مسبوقة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز من حيث الحجم وسرعة الإنجاز في بيت الله الحرام من شأنها أن تيسر وتسهل على قاصدي البيت الطواف والصلاة إن شاء الله.

ويجب علينا أن نعود أنفسنا من باب الصدق في التعاطي مع أمورنا الدينية، أن حرية الفكر مكفولة ومندوب إليها في ديننا الحنيف، ولكن يجب أن نتعامل معها بأدواتها وأن نلجأ في المواضيع الشائكة والتي تشكل علينا لأهل الاختصاص، ومن ثم نأخذ بالأسباب ونبرأ بها إلى الله سبحانه وتعالى انطلاقا من إحساسنا بالمسؤولية الدينية.

وعليه فإن من حسن بحث الأمور والتفكر فيها أيضا هو اختيار الزمان والمكان المناسبين، فهناك من الأمور ما يجب أن يناقش في الدوائر العلمية وقاعات الدرس طلبا للحق والقرار الصحيح، وهناك من الأمور ما يطرح على وسائل الإعلام والنشر وشتان بين الاثنين.

ونؤكد هنا أننا يجب أن نرتقي بثقافة الخلاف وأسلوب الحوار فيما بيننا، فحتى وإن كان هناك طرح نعتقد أنه جانب الصواب، علينا أن نكون موضوعيين وعلى خلق إسلامي راق ـ كما علمنا سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم ـ في التعاطي معه، ونعلم أن الأعمال تبدأ بالنيات، فإذا كان الدافع هو التناصح مع أخ لي حبا في اجتذابه للصواب فإن الله سييسر لي من أسباب التوفيق وبلاغة القول والحجة التي ستجمعنا على الصواب وعلى ما يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأخيرا أذكركم ونفسي بخلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القول والفعل، وقد قيل قديما ما آفة الأخبار إلا رواتها فكل هذا الجدل الذي يثار حول المقام في مواقع التواصل وينسب إلى الدولة هو عار عن الصحة، والمسألة لا تعدو آراء شخصية لبعض الناس نحسن الظن فيهم ولكنهم لم يقدروا العواقب جيدا ولا يدركون أن فعل الخطأ بنية حسنة لا يجعله صوابا، وأن الكلمة مسؤولية وهي أسيرة الإنسان فإذا تكلم بها أصبح أسيرها.

فاللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سببا لمن اهتدى.