لماذا النظام العالمي الجديد لن يكون منظما ومنتظما؟

يقول عالم الفيزياء الأشهر ألبرت أينشتاين إن الإنتروبيا (entropy) هي القانون الأول لكل العلوم، بل هي أساس قوانين العلوم الأخرى

يقول عالم الفيزياء الأشهر ألبرت أينشتاين إن الإنتروبيا (entropy) هي القانون الأول لكل العلوم، بل هي أساس قوانين العلوم الأخرى

الجمعة - 27 يونيو 2014

Fri - 27 Jun 2014



يقول عالم الفيزياء الأشهر ألبرت أينشتاين إن الإنتروبيا (entropy) هي القانون الأول لكل العلوم، بل هي أساس قوانين العلوم الأخرى.

والإنتروبيا ليست هي اللانظام والتدهور والفوضى والعشوائية فقط - أوبلغة الفيزياء ليست هي الموت الحراري - إنما أصبحت في إطار توسيع القانون الثاني في علم الديناميكا الحرارية في الفيزياء الحديثة: بناء، دينامية، إبداعا للجديد.

إن الإنتروبيا هي مقياس عدم الانتظام، أي أن النظام الذي يتصف ببنية منتظمة يتسم بـ”إنتروبيا محدودة”.

أما النظام الذي تزيد فيه الإنتروبيا فهو نظام يتصف بالفوضى وعدم الانتظام.

في الإنتروبيا تعود الطبيعة لذاتها وتبني نظاماً جديداً وهنا لا بد من إعادة النظر في مفهومي النظام والفوضى من جديد، التدهور والبناء، التوازن والاضطراب حيث يلعب كل منهما لعبة المرايا العاكسة ..ففي رحم الفوضى واللانظام يولد غالبا وأبدا “النظام”.

نشرت مجلة “شؤون خارجية” Foreign Affairs حديثا، مقالا مهما لأستاذ العلوم السياسة بجامعة أوهايوراندال شويلر يلخص فيه أهم الأفكار التي تضمنها كتابه الجديد: “شيطان ماكسويل وعلامة آبل الذهبية”: الخلاف العالمي في الألفية الجديدة، الصادر عن “ جون هوبكنز “ عام 2014 .

ويقول شويلر في مقاله: منذ بداية القرن الحادي والعشرين وخبراء السياسة الخارجية يتنبؤون يوما بعد يوم بأن الولايات المتحدة باعتبارها القوة العالمية الوحيدة المهيمنة وصلت، إلى نهايتها، بدلاً من أن يسألوا أنفسهم: ما هو البلد الأكثر احتمالا ليحل محل الولايات المتحدة؟ وهل لا يزال مفهوم “الهيمنة العالمية” قائما أوساريا في عصرنا الراهن؟



لا قوى عظمى



يبدو على نحو متزايد أن العالم لم يعد لديه قوة عظمى واحدة أوحتى مجموعة من القوى العظمى (المعروفة في السابق بهذه الصفة) والتي تدير السياسة الدولية غالبا بالتوافق أوالصراع أوالتوازن النسبي، بدلاً من ذلك ستكون لدينا مجموعة متنوعة ومتباينة من القوى بما في ذلك “شبه الدول والشركات العابرة للقوميات والحركات الإيديولوجية والتنظيمات الإرهابية ومؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، يتنافسون بعضهم مع بعض -ودون جدوى- لتحقيق أهدافهم.

السياسة الدولية تحولت في القرن الحادي والعشرين من نظام يرتكز على مبادئ ثابتة نسبيا يمكن التنبؤ بها إلى نظام مجهول وغير مستقر وعرضة للأخطاء والمخاطر ولا يمكن لأحد أن يتنبأ بأي انتظام سلوكي من قبل الدول وشبه الدول أوالتنظيمات والمؤسسات الأخرى، فقد انتقلنا من الجغرافيا السياسية إلى عصر الإنتروبيا السياسية بالمعنى العلمي.



مقياس اللانظام



الإنتروبيا بالمفهوم العلمي هي مقياس اللانظام أوقل هي المقياس الذي نقيس به مساحة وحجم الاضطراب والفوضى والعشوائية وهو ما سيميز مستقبل السياسة الدولية.

العالم سيصبح بلا قيادة والصراعات والتهديدات ستكون “باردة” أكثر من كونها “ساخنة” والمخاطر لن تأتي بسبب الحروب بين القوى العظمى وإنما بسبب الخلافات حول القضايا الجيوسياسية المتصاعدة حول العملات النقدية والتجارة العالمية والبيئة وغيرها! سوف تنشأ المشكلات والأزمات وتتكرر باستمرار ومع أقل جهد من التعاون الدولي ستحل.



التدمير الخلاق



كيف حدث ذلك؟ بدأ التحول في القرن العشرين مع ظهور الأسلحة النووية وانتشار العولمة الاقتصادية التي جعلت الحرب بين القوى العظمى مستحيلة ولا يمكن تصور نتائجها الكارثية كما أشار كثير من العلماء وأن العالم سوف يستمتع بأطول فترة من “السلام النسبي” في التاريخ الحديث.

لقد كانت نهاية الحروب الكارثية بين القوى العظمى نعمة كبيرة وهوما ظهر في التكلفة الحقيقية لهذه الحروب المادية والإنسانية.

فعبر القرون القليلة الماضية نشبت الحروب بين القوى في النظام الدولي التي كانت تتنافس للهيمنة على العالم وموارده كل مئة سنة تقريبا حيث كانت تتوج في نهاية قوة رائدة جديدة تصبح هي المسؤولة عن تنظيم السياسة الدولية وتتحمل بالتالي أعباء القيادة العالمية.

وفي كل مرة كانت الممالك المنتصرة في الحروب الجديدة تطمس أوامر النظام الدولي القديم وتنشئ بنية سياسية عالمية جديدة أكثر ملاءمة لتطورات ومتغيرات المرحلة الجديدة، وهكذا كانت الحروب تنشئ قواعد ومبادئ جديدة وهذا في حد ذاته كان أمرا جيدا فقد أمدت النظام الدولي بطاقة جديدة خدمت السلام النسبي لفترة.

لكن اليوم لم تعد لدينا قوة قادرة على التدمير الخلاق ومن ثم إعادة بناء العالم فالسلام لفترات طويلة يؤدي إلى الجمود والاضمحلال ومن ثم لا بد من النفخ في الرياح لتتجدد مياه البحار والنظام الدولي.

السلطة والهيمنة موجودة بالفعل في العالم وربما أكثر من أي وقت مضى وهي تنمو بمعدلات أكبر بكثير مما نتوقع، ورغم أن الولايات المتحدة هي قوة مهمة بالنسبة للمتنافسين السياسيين الآخرين إلا أنها تعاني من تضخم الديون، لذا اقتصرت “سياسة واشنطن الخارجية” على عدد محدود من الأهداف السياسية، وهوما دفع البعض إلى وصف أمريكا بأنها تميل للانعزالية والتراجع عن أدوارها وأن قوتها آخذة في التآكل، وأنها لا تملك الإرادة السياسية والعزيمة الوطنية للاستفادة من مزايا القوة والهيمنة على العالم رغم أنها لا تزال تمتلك عناصرها ربما لتتمتع بها وحدها في حماية حدودها وأمنها القومي.



السلطة للجميع



وتتميز العلاقات الدولية بين الفاعلين السياسيين أيضا باللانظام والفوضى لا سيما في عصر المعلومات والثورة الرقمية التي أتاحت للجميع بدءا من المواطنين العاديين إلى المشاهير وقادة الرأي مرورا بالمنظمات والشبكات الإرهابية الإجرامية العابرة للحدود الوهمية والحركات الدينية والإيديولوجية، بأن تمارس سلطتها وهو طور جديد لم يدرس بما فيه الكفاية إذ تمتلك إحدى هذه الفئات أوبعضها القدرة على تعطيل وإيقاف سير الأشياء قبل حدوثها بينما لا تستطيع تنفيذ أجندتها الخاصة فقد سمحت تويتر والفيس بوك والرسائل النصية للمواطنين تنفيذ مظاهراتهم على نطاق واسع وإسقاط حكومات ديكتاتورية ولكنها لم تستطع الوصول للسلطة أوإقامة تغييرات سياسية حقيقية على أرض الواقع.



تدفق المعلومات



اللانظام ليس خاصا بالنظام الدولي والعلاقات بين الدول وإنما أيضا على مستوى الأفراد والأشخاص الذين أصبحوا غير قادرين على متابعة السرعة التي يتم بها نشر المعلومات وتدفقها على نحو متزايد.

وحسب الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي وليم جيمس فإن الإنسان في جميع أنحاء العالم أصبح معرضاً للتسطيح غير القابل للعلاج.

ومعنى التسطيح – كما يشير جيمس – هو شعور عام بالتفاهة وفقدان المعنى بدلا من الوعي العميق الذي يحفز الإنسان ويستنفر قواه الخلاقة.

إن الحمل الزائد للمعلومات ينتج “الملل” والشعور بالاغتراب كما أوضح الخبير الاقتصادي هربرت سيمون إذ قال: إن الثروة في المعلومات تولد فقرا في الاهتمام والمبالاة ..ذلك لأن الثروة في المعلومات تعني الندرة في شيء آخر (ندرة كل ما هو يستهلك تلك المعلومات) لأن ثروة المعلومات ببساطة تستهلك انتباه المتلقين لها.





المجتمع الحديث



بهذا المعنى يعاني المجتمع الحديث من “الجماعية” ومن “اضطراب في نقص الانتباه”، لا يهم كم ما يضخ في أدمغتنا من معلومات يوميا وكأنها أدوية مخصصة لعلاج مرض “الزهايمر” الذي يصعب الشفاء منه، فقد أدمنا المعلومات الرقمية من جوجل وتويتر والبريد الالكتروني وعلامان فايرفوكس وفليكر، وهي مشكلة تواجه أيضا وكالة الأمن القومي الأمريكي حيث إن قراءة مليارات من رسائل البريد الالكتروني والتنصت على عدد مماثل من المكالمات الهاتفية وغيرها يوميا أصبح شديد التعقيد والإرباك ويحمل مخاطر كبيرة.

وقد عبر الجنرال الأمريكي المتقاعد جون فاينز عن أسفه من أن تعقيد هذا النظام في عصرنا يتحدى الوصف وهو يستعرض جهود الاستخبارات في وزارة الدفاع الأمريكية العام الماضي قائلا: لا يمكن تقييم فعالية ما نقوم به وهل هذا يجعلنا أكثر أمانا أم لا.

المشكلة أن وجود المعلومات بهذه الوفرة والكثرة في عصرنا لم ينتج “حكمة أكبر” من العصور السابقة، بدلا من ذلك أدت هذه الزيادة إلى “الفوضى” و”اللانظام” و”الضوضاء” و”التشويش”، ناهيك بتشويه المعلومات وتزييفها في العصر الرقمي وبشكل روتيني، والنتيجة السيئة هي أن الناس أصبحت تستجيب لكثير من الحقائق المتناقضة، والشيء وعكسه في نفس الوقت بحيث أصبحت “البلبلة” هي شيئا طبيعيا، وتفسير الحقائق الواضحة بذاتها بما يتفق مع آراء الناس الشخصية والذاتية والغربية هو السائد، وهي غالبا تحمل رؤية مسطحة وخاطئة حول العالم الذي نعيش فيه.

إن المعرفة في عصرنا لم تعد ترتكز على معلومات موضوعية وإنما على تفسيرنا الذاتي لهذه المعلومات والحقائق “أي نحن نعرف اليوم معرفة ممتلئة بالثقوب والثغرات والفجوات مما يتيح لأولئك الذين يريدون التأثير علينا أن يقنعونا بسهولة بما يريدون أن نصدق أنه الحقيقة دون سواها!





انتشار البادئات يبدأ بالرفض والتمرد



اللانظام في العالم الجديد يعني أن التاريخ لم يعد قابلا لتكرار نفسه من جديد، بمعنى أن البشرية لم تعد تحتمل جحيم حرب عالمية جديدة أو كارثة اقتصادية كبيرة، لكن السلام العالمي الدائم لن يتحقق على الأرض أيضا.

سنعيش في عالم كامل من الارتباك وعدم الاستقرار، وسنشعر بالاضطراب وتضيق صدورنا بأمور كثيرة (وضيق الصدر هنا هو الشعور بالانقباض والعداء بلا هدف واضح ولأسباب غير معروفة أو معلومة للإنسان)، ويعبر عن ذلك انتشار هذه البادئات التي تسبق كل شيء مثل: ما بعد أمريكا...ما بعد الحداثة...ما بعد التاريخ، وغيرها.

وهذه البادئات – في العمق النفسي – تعني الرفض والتمرد والمقاومة لشيء ما موجود بالفعل، أكثر مما تعني الوعد بإعادة اختراع أي جديد، سواء إعادة بناء النظام العالمي الجديد أو المؤسسات المرتبطة به، وهي تعبير عن أمل مفقود في التخلص مما هو قائم.

المشكلة أننا لا نستطيع أن نسير عكس الاتجاه ونتخلى عن الحمولة الزائدة من المعلومات أو نتخفف من بعضها، لكن علينا أن نعرف أفضل السبل للتكيف مع هذا الوضع، وربما نتعلم كيفية تحويل فيضان المعلومات إلى معرفة مفيدة وموثقة.

لا توجد استراتيجيات تضمن النجاح حتى الآن، ولكن ينبغي التركيز على خلق “شبكات لا مركزية” من التنظيم الذاتي القادر على الاستجابة لأحداث وبيئات سريعة التغير.

“الإنتروبيا” لن تكون “يوتوبيا – مدينة فاضلة”، وهذا لا يقودنا إلى اليأس والإحباط من المستقبل بالضرورة وهدم كل خير وجميل في العالم، لقد استمتعنا بأوقات من الرخاء والسلام دون حروب كبرى منذ عام 1945.

ليس هناك ما يدعو للخوف أو الاضطراب “فقط الكفاح”، كما قال ألبير كامو، هو ما يجب أن يملأ قلب الرجل، وعلى المرء أن يتصور “سيزيف” (أكثر الشخصيات مكراً بحسب الميثولوجيا الإغريقية) سعيدا.

نحن مثل “سيزيف”، علينا فقط أن نكافح ونناضل ونتصالح مع عالمنا غير المفهوم والمجهول – حتى نستطيع تقبله كما هو - سواء كان هذا العالم أفضل أو أسوأ، لأنه في النهاية “ ليس لدينا أي خيار آخر”!