ردا على خالد السيف: آراؤك في الماوردي وأبي يعلى الحنبلي تجافي الحقيقة والمنهجية العلمية

يمثل التراث لدى كل أمة من الأمم تواصلا فكريا واجتماعيا بين الماضي والحاضر، ويبرز صورة من شخصيتها الحضارية؛ بما يختزنه من تجارب ومعارف.

يمثل التراث لدى كل أمة من الأمم تواصلا فكريا واجتماعيا بين الماضي والحاضر، ويبرز صورة من شخصيتها الحضارية؛ بما يختزنه من تجارب ومعارف.

الأحد - 25 مايو 2014

Sun - 25 May 2014



يمثل التراث لدى كل أمة من الأمم تواصلا فكريا واجتماعيا بين الماضي والحاضر، ويبرز صورة من شخصيتها الحضارية؛ بما يختزنه من تجارب ومعارف.

وقد تعاقبت أقلام الباحثين شرقا وغربا على دراسة التراث الإسلامي؛ ولا سيما الجانب السياسي منه.. واختلفت الآراء فيه؛ فمنها ما جعله عبئا على التقدّم الحضاري للأمة، ومنها ما رأى فيه الخلاص لمشكلات الأمة المستعصية، باعتبار أنه لا يمكن لأي جيل أن يتهيأ لبناء مستقبله، وهو يجهل، ماضيه، أو أن يتنكر له. لذلك نجد أن كل من يسعى ويريد بناء حضارة فإنه يضطره الحال إلى التماس «موروث ثقافي أو حضاري»؛ لينطلق منه وينسج عليه .. حتى لو لم يكن له، فضلا عن من يملكه. فالإرث الثقافي والحضاري لأجيال يفترض أن يكون حافزا لها ودافعا لبناء الأمة وفق أسس سليمة.. ومن هنا كان التمسك بالتراث والاعتزاز به، بوصفه يمثل ذاكرة الأمة الواعية لتاريخها وحضارتها.

وعليه كان لا بُدَّ من الرجوع إلى تراثنا الإسلامي الزاخر لنستقي منه المبادئ، ونقف منه على المعالم؛ لنرى كيف أدلى السابقون من العلماء المسلمين بدلوهم في المسائل المتعلقة بنظم الحكم، وكيف حاولوا التنظير والتقنين لنظام الحكم في الإسلام من خلال بحثهم في القرآن والسنة.

ومن خلال استقرائهم للسيرة النبوية، وأتباعه من قادة وعلماء.

وأنَّه من المهمّ للقارئ أن يكون محايدا ومنصفا حالة نظره في جهود أولئك العلماء الأجلاء، بأن ينظر في هذه المحاولات في سياقها بحيادية تامَّة دون تحيّز أو تجنٍّ.

وكانت من تلك الجهود الجليلة:» كتاب الأحكام السلطانية للإمام الماوردي، المتوفى 450هـ». قال عنه الذهبي: «الإمام العلامة، أقضى القضاة، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري، الماوردي، الشافعي، صاحب التصانيف». وكتابه يعد مثلا عاليا للفقه السياسي الإسلامي، ومن مفاخر الفكر العربي الإسلامي العتيق في بابه. وهو أشبه بدستور عام للدولة، وللأسس التي تقوم عليها. وقد ترجم إلى الفرنسية، والألمانية والإنجليزية؛ لأهميته في مادته.

وقال الماوردي عن مقصد تأليفه: «ولما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحق، وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير، أفردت لها كتابا امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته؛ ليعلم مذاهب الفقهاء فيما له منها فيستوفيه، وما عليه منها فيوفيه؛ توخيا للعدل في تنفيذه».

والمجهود الثاني: «الأحكام السلطانية» لأبي يعلى الحنبلي.

قال عنه الذهبي: «الإمام العلامة، شيخ الحنابلة، القاضي. صاحب التصانيف المفيدة في المذهب . وانتهت إليه الإمامة في الفقه، وكان عالم العراق في زمانه».

وقال عن هدف تصنيف كتابه: «فإني رأيت أن أفرد كتابا في الإمامة، أحذف فيه ما ذكرته هناك مع الخلاف والدلائل، وأزيد فيه فصولا أخرى، تتعلق بما يجوز للإمام فعله من الولايات وغيرها».

هذان الإمامان تناولهما الكاتب خالد السيف بالنقد في مقاله بتاريخ 24 أبريل 2014 والمعنون بـ»70 قاضيا أفتوا بقتل الإمام أحمد بن حنبل..!»

فقد جاء فيه: «وأسأل الله تعالى أن يعامل الماوردي الشافعي، وأبا يعلى الحنبلي، بما يستحقان؛ ذلك أنّهما صاحبا أول بادرةٍ أحالت السياسة الشرعية إلى محض سياسةٍ سلطانية خالصةٍ للوالي إذ لا يشركه فيها من أحد. ومن كتابيهما -عقب القراءة الفاحصة لهما- أستطيع القول: هما مَن يتحملان وزرَ مسؤولية الشرعنة لـ»الاستبداد» بحيث قد سنّا في فقهنا السياسي الشرعي القول بحرمة الحرية على نحو من تأليه الخليفة والنأي به تاليا عن أن يُسأل عما يفعل، وَفق ضمانةٍ شرعيّة توكّدت من خلال ما بسطاها في كتابيهما من تكلّفٍ في استدلالٍ لا يستقيم ديانة ومنهجا وكليّات ما جاءت به الشريعة. ولست أجافي الحقيقة حين الزعم بأنك: ما إن تنته من قراءتك هذين الكتابين -قراءة واعية- حتى تخرج لا محالةَ بمثل هذه النتيجة: إنّ الدين عند الماوردي هو الخليفة السلطان!».

أولا: القراءة الأولية لمقاله يظهر منه الخلط بين من أفتوا بقتل الإمام أحمد، وبين الماوردي وأبي يعلى. لأن تلك الفتنة كانت بدايتها سنة 218 هـ واستمرت قرابة خمسة عشر عاما.

وهؤلاء الأئمة عاشوا في منتصف القرن الخامس الهجري.

فلو كانت هذه القضية حدثت بعدهما لافترض جدلا أن القضاة والحاكم قد تأثروا بمضمون كتابي «الماوردي وأبي يعلى» ولماَّ لم يكن من ذلك شيء لم يبق سوى الخلط، ومحاكمة اللاحق على أخطاء السابق.

ثانيا: أن مضمون الكتابين ما هو إلا الأمور العامة والخاصة من حقوق الولاة والواجبات التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنة، وشرحها بلغة علمية فقهية متسمة بالعمق.

ثالثا: أن هذين الكاتبين قد تناولهما غير واحد من العلماء والباحثين والأدباء والمفكرين قديما وحديثا، كلٌ ينظر إليهما بحسب مشربه وثقافته، أمثال علي الطنطاوي ومحمد الجابري. ومع ذلك لم يذكر واحد منهم ما ذكره الكاتب ، فضلا عن «نقدهم».

يقول الجابري: «يتحدث الماوردي عن مجال الدولة: وهي الوزارة، والإمارة، والمحافظات، والأقاليم، والجيش... الخ، أما في «الولايات الدينية» فيتحدث عن مجال الدين: ولاية القضاء والمظالم، وإمامة الصلاة، والولاية على الحج، وغير ذلك من الموضوعات التي ورد فيها نص شرعي. وما يجب التنبيه إليه هو أن الماوردي يستند فيما يقرره من آراء إلى وصف ما كان موجودا في عصره بالنسبة لـ «الأحكام السلطانية»، وعلى النصوص الدينية وما جرى العمل به زمن الصحابة بالنسبة لـ «الولايات الدينية».

فقراءة مثل: علي الطنطاوي والجابري لأعمال الماوردي وأبي يعلى ونقدهم لهما جديرة بأن تظهر ما لم تظهره قراءة الكاتب بكل تأكيد.

واعلم أن توقير العلماء والكبار وأهل الفضل واجب ديني. وإذا كان الأنبياء لهم حق التبجيل والتعظيم والتكريم، فلمن ورثهم نصيب من ذلك.

وأن «لحوم العلماء مسمومة « فمن تعرض لها قتلته.

كما أدعوك لقراءة تلك الكتب مرة أخرى وبتعمق أكثر؛ لتكتشف بنفسك كم كنتَ تجافي الحقيقة والمنهجية العلمية حين تزعم :»أنّ الدين عند الماوردي هو الخليفة السلطان!». وكم كنتَ مخطئاَ حين قلتَ: «وأسأل الله تعالى أن يعامل الماوردي الشافعي، وأبا يعلى الحنبلي، بما يستحقان». ولم تعلم أنهما مجتهدان، صوابهما مأجور، وخطأهما مغفور.