التطور القضائي!

لا يمكن أن أنسى ذلك اليوم حين عدت من المحكمة العامة منهكاً محبطاً، جلست أمام جدي –وهو عميد المحامين بالمملكة بعمر يناهز 85 عاماً- فسألني ساخراً –كعادته في السخرية من كون الشاب قد يتعب-: مالك؟ سكتُّ لحظة كأنني أُقدِّر: هل يمكن أن أصف مشاعري في كلمات محدودة؟ ثم فاتحته.

لا يمكن أن أنسى ذلك اليوم حين عدت من المحكمة العامة منهكاً محبطاً، جلست أمام جدي –وهو عميد المحامين بالمملكة بعمر يناهز 85 عاماً- فسألني ساخراً –كعادته في السخرية من كون الشاب قد يتعب-: مالك؟ سكتُّ لحظة كأنني أُقدِّر: هل يمكن أن أصف مشاعري في كلمات محدودة؟ ثم فاتحته.

الجمعة - 25 أبريل 2014

Fri - 25 Apr 2014



لا يمكن أن أنسى ذلك اليوم حين عدت من المحكمة العامة منهكاً محبطاً، جلست أمام جدي –وهو عميد المحامين بالمملكة بعمر يناهز 85 عاماً- فسألني ساخراً –كعادته في السخرية من كون الشاب قد يتعب-: مالك؟ سكتُّ لحظة كأنني أُقدِّر: هل يمكن أن أصف مشاعري في كلمات محدودة؟ ثم فاتحته. حدثته عن نظرتي السوداوية اليائسة للقضاء ونتائج الضعف القضائي من تأثر الأمن وضياع الحقوق بسبب عدم فعالية المحاكمات وتباعدها، وجهل بعض القضاة بالنظام، وعدم إعطاء المحامي حقه ومعاملته كعائق أحياناً، وعن تفكيري في ترك المحاماة لأجل كل ذلك، كنت أتحدث بانزعاج وحماس، ختمته بقولي «ثم يقولون تطور قضائي، أين هذا التطور المزعوم؟» حينها ابتسم جدي بهدوء، وما زاد على أن أسند رأسه إلى مقعده، وقال أنتم شباب مدلعون! كأنه سكب عليَّ ماءً بارداً، فقلت أنت المحامي تقول هذا؟ ماذا أبقيت للمطبلين؟ طبعاً قلتها بعبارة ألطف قليلاً لكن المعنى وصله، فابتسم بتفهم، وقال: أنا يا بني أعمل في المحاماة منذ أكثر من أربعين عاماً، رأيت فيها العجب العجاب، أسمعك الآن تشتكي من توافه، وتعزو إليها انهيار الأمن وتدهور العدل، وتنكر عظمة التطور في المرفق القضائي، ثم تريدني ألا أصفك بالدلع؟ أنتم يا بني –يقول جدي- تعيشون العصر الذهبي للقانون في هذه البلاد، القوانين تخلَّقت، تقف أمام القاضي فتحاجُّه بالمادة القانونية فينصاع لها دون طعن في مشروعيتها، وقد كنا حين نحاجُّ بعض القضاة بذلك –هذا إن وجد نظام يحكم الموضوع- يتجاهله ويصفه بالوضعي،

ولا أنسى حين دخلت على رئيس محكمة أطالبه بتطبيق نظام التحكيم حسبما نص عليه العقد، فقال «إيش نظام؟ ما في شيء عندنا اسمه نظام هذه محكمة شرعية». كنا يا بني –يقول جدي- منبوذين نمثِّل الوجه الأسود للعدل، فنحن بنظرهم نسعى لـ(إحلال القانون الوضعي محل الفقه الإسلامي) وتعميم الحكم بغير ما أنزل الله، وإذا أكثرنا على القاضي طردنا من مجلس الحكم، بينما لكم نظام محاماة وتنتظمون في لجان وتطالبون بهيئة مستقلة والقاضي يستمع لأحدكم كما يستمع لنده. استرخى جدي أكثر وأغمض عينيه وقال: اصبروا يا بني، التطور الذي نال القضاء عظيم جداً، وسيصبح أفضل فيما يلي، لكنه بحاجة للزمن، لا بد من اندثار جيل الرجعيين والشخصيات المؤثرة سلباً وتغيير ثقافة المجتمع حتى تمضي الأمور، لا يكفي في ذلك عزائم الرجال أو أموال الدولة، لا بد من مرور الزمن. حين خرجت من عند جدي لم تتغير وجهة نظري لأني أعلم أن بالإمكان أفضل مما كان، لكن تفاؤلي زاد أضعافاً لأني فهمت أن التطور ليس مزعوماً، لقد خرجت سعيداً بكوني محامياً.