هل اندلعت الحرب الدينية الكونية؟

في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر2011 حذر المفكر الفرنسي «باسكال بونيفاس» من خطورة استحضار أطروحة المنظر الأمريكي «صمويل هنتنجتون» صدام الحضارات، باعتبارها الثيمة الرئيسة التي تحكم مستقبل العلاقات بين الشرق والغرب

في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر2011 حذر المفكر الفرنسي «باسكال بونيفاس» من خطورة استحضار أطروحة المنظر الأمريكي «صمويل هنتنجتون» صدام الحضارات، باعتبارها الثيمة الرئيسة التي تحكم مستقبل العلاقات بين الشرق والغرب

السبت - 17 يناير 2015

Sat - 17 Jan 2015



في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر2011 حذر المفكر الفرنسي «باسكال بونيفاس» من خطورة استحضار أطروحة المنظر الأمريكي «صمويل هنتنجتون» صدام الحضارات، باعتبارها الثيمة الرئيسة التي تحكم مستقبل العلاقات بين الشرق والغرب.

ويبدو أن هذا التحذير قد دخل حيز التنفيذ مع أحداث الهجوم الإرهابي على «شارلي إيبدو» في باريس يناير 2015، وأن نظرية هنتجتون أصبحت قدرا محتوما، أو ما يعرف في العلوم الاجتماعية والسياسية بـ» بالنبوءة المحققة لذاتها».

وتشير هذه النظرية التي وضعها في الأصل عالم الاجتماع «ر- ك – ميرتون» في عام 1949، إلى الطريقة التي يتأثر بها السلوك الاجتماعي بالتوقعات التي تكون لدى الأفراد والجماعات بعضهم إزاء بعض.

ومنطلق هذه النظرية الأساسي هو أن هذه التوقعات تولد تحديا خاطئا للوضع الذي يغذي نمطا سلوكيا تغذيه رجعية تظهر وكأنها تؤكد الموقف الأولي.

فعلى سبيل المثال، ترى دولة (أ) أن الدولة (ب) تضمر نوايا عدوانية تجاهها، وبناء على ذلك فإنها تحرك قواتها إلى الجبهة إظهارا لقوتها، وترد الدولة (ب) بإجراء مقابل حاسم، فتشعر الدولة (أ) بأن موقفها الأول كان مبررا، وهذا المثال المبالغ في التبسيط بشكل واضح يبين مع ذلك مبدأ النظرية.



النبوءة المحققة



وطبقت النبوءة المحققة لذاتها على نطاق واسع على قضايا مثل الطريقة التي يقوم بها المعلمون بوضع درجات طلابهم ثم يبحثون عن تأكيد لهذه الدرجات لاحقا.

ويتفق علماء الاقتصاد على أنها عامل فاعل في «التهافت على الشراء» والأعمال المصرفية وانهيار البورصات، وكان تطبيق هذه النظرية أكثر رواجا لدى علماء النفس والاجتماع والسياسة، لكنها كان لها شأن خاص في فلسفة التاريخ.

فقد ظهرت هذه النظرية في الفلسفة الألمانية عام 1919 بصدور كتاب أوزفالت شبنجلر « أفول الغرب»، وربما، لم يحدث من قبل على الإطلاق أن صادف كتاب فلسفي مثل هذا النجاح المنقطع النظير، إذ ترجم إلى كل لغات العالم تقريبا، وقرئ على كل لسان.

فما السر في هذا النجاح؟ وما السحر الذي أحدثه في قرائه؟ يعزو «أرنست كاسيرر» نجاح كتاب شبنجلر إلى عنوانه، وليس إلى مضمونه، إذ كان كالشرارة الكهربائية التي ألهبت خيال القراء.

نشر الكتاب في يوليو 1918 عند نهاية الحرب العالمية الأولى، فأدرك كثيرون في هذا العهد وجود شيء فاسد في الحضارة الغربية التي طالما حدث إسراف في الثناء عليها، وعبر كتاب شبنجلر بطريقة لاذعة نفاذة عن هذا القلق العام، فهو لم يكن كتابا علميا على الإطلاق، لأن شبنجلر كان يحتقر كل مناهج العلم، ويتحداها علنا، وهو القائل: الطبيعة تبحث علميا، أما التاريخ فينظر إليه نظرة شاعرية.

لقد صنع شبنجلر – حسب كاسيرر - من الرؤى التنبئية فلسفة للتاريخ، ويزهو بأنه اكتشف طريقة جديدة يمكن الاعتماد عليها في التنبؤ بالأحداث التاريخية والحضارية، على نفس النحو الذي يتبعه عالم الفلك في التنبؤ بخسوف الشمس أو القمر، مع الاعتماد على دقة مماثلة.

يقول»في هذا الكتاب أول محاولة ترمي إلى تحديد الاتجاه الذي سيتجه إليه التاريخ، وتتبع المراحل التي لم يكشف عنها النقاب بعد في مصير أية حضارة، على الأخص في الحضارة الوحيدة في عصرنا وفي كوكبنا، التي بلغت بالفعل حد الكمال».

وتكشف هذه الكلمات لنا مفتاح كتاب شبنجلر، وسر تأثيره العارم.

وغني عن البيان أن من يتحدث على هذا النحو لا يمكن أن يوصف بأنه عالم أو مؤرخ أو فيلسوف.

لقد اعتقد شبنجلر أن نهوض الحضارة، وتدهورها وأفولها، لا يعتمد على ما يدعى بقوانين الطبيعة، ولكنه يخضع لقوة أعظم هي قوة «المصير».

فالمصير هو الذي يسير التاريخ وليس العلية أو السببية، وهو يقابل حتمية الصراع بين الحضارات عند هنتنجتون.



نزاع الحضارات



«باسكال بونيفاس» يؤكد أن سر ذيوع وانتشار نظرية هنتنجتون عن «صدام الحضارات» The clash of civilizations عام 1993، والتي نشرها أولا في مجلة شؤون خارجية وطورها في كتاب يحمل نفس الاسم فيما بعد، هو أن جميع أطراف الصدام أو الصراع كانت راغبة في تصديق هذه النبوءة التي حققت نفسها بنفسها، منذ تفكك يوغوسلافيا السابقة مرورا بالحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وحتى تفجيرات القاعدة لأرقى أحياء الجزائر.

فما هو سر هذا الإجماع الذي حول هذه النظرية – النبوءة إلى قناعة راسخة لدى جميع الأطراف؟بالنسبة إلى هنتنجتون، فقد وضعت هزيمة الاتحاد السوفيتي حدا لجميع الخلافات الإيديولوجية لكنها لم تنه التاريخ.

فالثقافة وليست السياسة أو الاقتصاد، هي التي سوف تحكم العالم. والعالم ليس واحدا.

الحضارات توحد العالم وتقسمه.. الدم والإيمان، هذا ما يؤمن به الناس ويقاتلون ويموتون من أجله.

والنزاعات بين الحضارات هي المرحلة الأخيرة من النزاعات في العالم الحديث.

ففي العالم الغربي كانت النزاعات، بعد معاهدة «ويست فاليا» 1648 قائمة بين الأمراء والملوك والأباطرة.

وبعد الثورة الفرنسية وقعت النزاعات بين الأمم.

ونشبت في القرن العشرين بين الإيديولوجيات «الشيوعية، والاشتراكية القومية، والديمقراطيات الليبرالية».

وكانت الحربان العالميتان حربين أهليتين غربيتين، وكذلك الحرب الباردة.

وحلت اليوم المواجهات بين الحضارات.

والحضارة هوية ثقافية تحددها عناصر موضوعية «اللغة والدين والتاريخ والعادات... إلخ»، وعامل ذاتي، ألا وهو الهوية التي يقررها الأفراد لأنفسهم.

لكن «بونيفاس» يحذر بشدة من خطورة هذه النظرية على المستوى الثقافي – العقائدي بين الشعوب والمجتمعات في القرن الحادي والعشرين الذي يتجه العالم فيه نحو التكامل والتعاون و«التشبيك» في عصر العولمة، ذلك أنه إذا كان السؤال المطروح في النزاعات الإيديولوجية في القرن العشرين: مع أي جانب تقف؟ ومن ثم كان بوسع الناس اختيار معسكرهم وتعديله، فإنه في النزاعات بين الحضارات في القرن الحادي والعشرين سوف يصبح السؤال: «من أنت»؟ وعندئذ لا يكون التغيير ممكنا!



وهي بداية الحرب «الدينية» الكونية!