إبراهيم المرحبي

الحوكمة وجودة القرار

الأربعاء - 10 ديسمبر 2025

Wed - 10 Dec 2025

وحدها الحكومات الواثقة من أدواتها وقدراتها على استقراء المتغيرات الاقتصادية وإدارة مواردها بوعي ومسؤولية، أقول وحدها من تستطيع أن تفصح للعموم بثقة ووضوح. وفي عالم الاقتصاد وأسواق المال، تتساوى اللغة مع الأرقام في صناعة الثقة؛ لذا لم أستغرب اللغة الهادئة والصريحة التي اتسم بها خطاب معالي وزير المالية أ. محمد الجدعان عن الحوكمة - سواء في تصريحه الأخير أو في خطابه المتلفز عن الاستمرار في الإنفاق والعجز الاستراتيجي المستهدف - فهي تجسيد لوعي مؤسسي يرى في الإفصاح استثمارا في الاستقرار المالي، وتعزيزا لجودة القرار الاقتصادي.

والمستثمر - محليا كان أو عالميا - يفهم هذه اللغة جيدا؛ إذ لا شيء يزعجه كالغموض. فهو لا يبحث فقط عن أسواق واعدة، بل عن دولة يمكن التنبؤ بجودة قراراتها، ومعرفة منطقها الداخلي، والاطمئنان إلى أن سياساتها المالية مبنية على حوكمة ثابتة تشرح مستقبل مسارها المالي بإبانة دقيقة. ومن هنا تأتي القيمة الحقيقية لتصريح الوزير حين قال "ليس لدينا أي غرور.. إطلاقا ليس هناك غرور. إذا أعلنا شيئا ونحتاج إلى تعديله أو تسريعه وجعله أولوية أكثر من غيره، أو تأجيله أو إلغائه، سنفعل ذلك دون تردد"، وهو تصريح يذهب أبعد من كونه جملة ظرفية إلى كونه انعكاسا لتحول أعمق في ثقافة الإدارة المالية للدولة.

هذه الجملة تحمل في عمقها تحولا مهما حول الطريقة التي تقدم بها السعودية الجديدة نفسها اقتصاديا للعالم، وهو ما يمكن وصفه بالتحول الثقافي في الإدارة المالية. فليس جديدا في عالم الاقتصادات الكبرى أن تؤجل مشاريع أو تسرع أو تلغى بعد المراجعة، ولعل الناظر في اقتصادات الدول الكبرى يجد مثل هذه المراجعات. وهذا يدلل على أن ما يطرح في الخطاب المالي السعودي اليوم جزء من منهج عالمي يجعل من الاستدامة المالية إطارا للتخطيط والكفاءة الاقتصادية.

وبالتالي، فإن التحول الثقافي لا يتعلق بتغيير سياسات بعينها، بل يتعلق بطريقة الإفصاح ذاتها؛ فاللغة التي استخدمها معالي الوزير كانت لغة مهنية، وهادئة، ومتزنة، تعرف المتلقي بمنهج التفكير لا بمخرجاته فقط. وهذه اللغة منسجمة تماما مع رؤية 2030، التي قدمها سمو ولي العهد بوصفها نموذجا يجعل من الحوكمة ممارسة راسخة في إدارة المشاريع والمال العام واتخاذ القرار.

وعليه، فقد كان حديث الوزير عن العجز أو عن السياسات المالية الطموحة امتدادا لروح الرؤية التي تربط بين التنمية والسياسات الواضحة من جهة، وبين المستقبل وجودة القرار من جهة أخرى. فالشفافية لم تعد خيارا اتصاليا، بل أصبحت جزءا من العقد الاقتصادي الجديد الذي تقدمه المملكة لنفسها وللعالم؛ عقد يقوم على وضوح المنهج وسلامة القراءة واستدامة القرار.

إن الصراحة المالية التي اتسم بها خطاب معالي الوزير تعد حلقة في مسار إداري آخذ في الترسخ، يضع الحوكمة والشفافية في قلب صناعة القرار. وهذا هو سر الجاذبية المتنامية للاقتصاد السعودي، وقدرته على كسب ثقة المستثمر.

almarhaby@