اية سلامة

«اللي باقي منك»… سردية ثلاثة أجيال تبحث عمّا لم يُنتزع منها

الأحد - 07 ديسمبر 2025

Sun - 07 Dec 2025

في «اللي باقي منك» لا تتعامل شيرين دعيبس مع القضية الفلسطينية كخطاب سياسي مباشر، بل كامتداد نفسي طويل المدى، عالق في تفاصيل الحياة اليومية، ومترسّب داخل ذاكرة ثلاثة أجيال تتقاطع على البيت والذاكرة والرمزيه الفلسطينية وهي الارض. ما تصنعه دعيبس هنا ليس فيلمًا عن الاحتلال بقدر ما هو فيلم عن الأثر المتراكم للاحتلال داخل الفرد، وكيف تحوّل القمع إلى بنية داخلية تسكن العائلة مثل عضو جديد يولد معها ولا يغادر.

الفيلم يقدّم ثلاث مستويات زمنية وعاطفية في آن واحد: جيل عاش الصدمة الأولى، جيل ورث الخسارة، وجيل نشأ في عالم مُعلّق بين الرغبة في النجاة وبين شعور دائم بأن الزمن نفسه ليس ملكه. هذه البنية تُخرج الفيلم من محدودية “قصة تحت الاحتلال” وتضعه داخل سؤال أكبر: ماذا يبقى من الإنسان عندما يُنتزع كل شيء إلّا الذاكرة؟

قدّم فيلم «اللي باقي منك» تجربة مشاهدة تقوم على حساسية عالية في التعامل مع الذاكرة، وكأن المخرجة شيرين دعيبس تعيد ترتيب طبقات الشعور الإنساني أكثر مما تعيد سرد الحكاية. الفيلم لا يتعامل مع الماضي كحدث، بل كنبض طويل يظل يتردّد داخل الشخصيات، وينعكس على حاضرها وقراراتها وصمتها اليومي.

هكذا يبدو الاضطراب حين يتحول إلى لغة سينمائية
منذ اللحظة الأولى، يشعر المشاهد أنه يدخل عالماً مبنياً على تراكم المشاعر أكثر من تراكم الوقائع؛ عالم يلتقي فيه ثلاثة أجيال تحت سقف من الذاكرة والهوية و من الاضطراب الداخلي، كل شخصية تختبر القلق، الخوف، والرغبة في النجاة بطريقته الخاصة. وهذا ما يجعل الفيلم أقرب إلى رحلة شعورية منه إلى خط درامي غير تقليدي.
أسلوب دعيبس البصري يبدو هادئاً ومطمئناً على السطح، لكنه يخفي توتراً داخلياً يرافق المشاهد حتى اللحظة الأخيرة. الإضاءة، حركة الكاميرا، وحتى المساحات والأثر الزمني داخل الكادر، كلّها تعمل كأدوات لبناء حالة نفسية أكثر من بناء حدث درامي.
تتعامل دعيبس مع شخصياتها بحنان واضح، لا تضعها تحت عدسة الإدانة ولا تحت بطانة البطولة، بل تحت عدسة الفهم. وهذا ما يجعل الفيلم يتجاوز فكرة “القضية” ليصبح دراسة حسّاسة عن كيف يعيش الناس داخل أثر القمع وليس فقط تحت ثقله. النبرة هنا ليست خطابية ولا مباشرة بل تعتمد على التفاصيل الصغيرة، لحظة الانكسار الصامت، أو القوة التي تظهر بلا إعلان.
تجربة المشاهد للفيلم ليست ثابتة ، هناك صعود وهبوط في الإحساس، انتقال بين ذاكرة جيل وآخر، وبين رؤية فردية وأخرى جماعية. وهذه الحركة الشعورية هي ما يمنح الفيلم ديناميكيته الحقيقية، ويجعله عملاً قابلاً لإعادة القراءة والمشاهدة.
يعتمد فيلم «اللي باقي منك» على سرد دائري هادئ يبدأ بعين تحمل الكثير ليقال ، الذي يعمل كجسر بين ماضٍ أثقلته التجربة وحاضر يحاول لملمة ما تبقى منها. يُقدم السرد عبر انتقالات فلاش باك غير صاخبة وسلسة ، تُروى كـ طبقات شعورية أكثر من كونها أحداثًا زمنية منفصلة، ما يجعل الذاكرة جزءًا من اللحظة الحالية لا عودة إليها. ومع اتساع الحكاية، تتكشف خيوط ثلاثة أجيال تتقاطع تجاربها في نقطة واحدة، قبل أن يعيد الفيلم ربط الحاضر بالماضي عبر حدث إنساني شديد الحساسية يتعلق بالجيل الثالث. ينتهي السرد بلقاء يختزل الرحلة كلها، ويكشف أن ما ظنه المشاهد تسلسلاً خطيًا لم يكن سوى حركة داخل الذاكرة نفسها، حيث يصبح جوهر الحكاية هو كيف تُروى لا فقط ما يُروى.

بحث عمّا بقي لا عمّا فُقد
في النهاية، «اللي باقي منك» فيلم لا يبحث عن الإجابة، بل يدعو المشاهد لأن يتأمل ما يبقى في داخله هو ما تبقى من ذاكرته، مخاوفه، وما لا يستطيع تسميته بسهولة. إنه عمل صادق، ناعم، وذو أثر طويل، يصل للمشاهد دون ضجيج... فقط ب اداء المشهد نفسه.
الفيلم يكمن في جوهره عن العائلة، التهجير ،وعن البنية النفسية للإنسان حين يعيش داخل أثر القمع لا في لحظته المباشرة ، وكيف ينجو الإنسان من جرح لا يلتئم بل يتغير شكله مع الزمن ، العمل يقدّم سردًا هادئًا ومكثفًا، يقترب من الشخصيات كما لو أنه يقترب من نبضها: لا يفسّرها، بل يصغي لها. هو عمل يذكرنا بأن الاحتلال ليس حدثًا سياسيًا فقط، بل تجربة نفسية تنتقل مثل الإرث، تعيد تشكيل الهوية والعلاقات والحياة اليومية. وبفضل رؤية "شيرين دعيبس" التي تقف بين الخاص والعام، بين الموروث والذات يصبح الفيلم رحلة داخل ثلاثة أجيال تبحث عما بقي منها... لا عما أُخذ منها.

وبهذا المعنى، لا ينتهي الفيلم عند حدود حكايته، بل يمتد كـ مساحة للتأمل في الطريقة التي يعيد فيها الألم صياغة الإنسان دون أن يلغيه، ويعيد فيها التاريخ تشكيل الحاضر دون أن يسيطر عليه بالكامل. إنه ختام مفتوح على سؤال أكبر: ما الذي يبقى فينا فعلًا بعد كل هذا العبور الطويل؟ وما الذي نصنعه نحن من هذا الباقي؟