حنان درويش عابد

بر الوالدين... حين ينحني الزمن احتراما لخطواتهما


الاثنين - 01 ديسمبر 2025

Mon - 01 Dec 2025

هناك لحظة لا ننتبه لها إلا حين يتقدم بنا العمر قليلا... لحظة ندرك فيها أن أعظم مدرسة في الحياة لم تكن قاعات الدراسة، ولا الكتب الثقيلة، ولا المؤتمرات الصاخبة؛ بل كانت تلك اليدان اللتان أمسكتا بنا أول الطريق، ثم أفلتتا قليلا كي نتعلم المشي دون أن نسقط. إنهما الوالدان... أجمل ظلين يمشيان معنا، وإن ابتعد جسداهما.

بر الوالدين ليس واجبا... بل شرف إنساني لا يستحقه إلا من امتلأ قلبه بالامتنان في عالم سريع، يركض فيه الناس خلف إنجازات مؤقتة، يظل بر الوالدين هو الإنجاز الوحيد الذي لا يزول أثره. هو الباب المفتوح بين الأرض والسماء، والدعوة التي تغير مصيرا كاملا دون أن تحدث صوتا. قد يمنحك والدك كلمة واحدة ترفعك عمرا، وقد تمسك والدتك بطرف قميصك فتشعر أنك محمي من الدنيا بأكملها.

بر الوالدين ليس طقوسا ولا خطوات مكتوبة؛ هو لغة نوايا... أن تذهب إليهما بقلب لين، أن تسمع قبل أن تجيب، وأن تحرص على ألا ينكسر خاطر واحد منهما ولو من غير قصد. هو أن تفهم صمتهما، وأن تعذر تعبهما، وأن تقرأ في ملامحهما القصص التي لم يقولا عنها شيئا.

الوالدان... هما التاريخ الذي يظل حيا في أبنائهما، قد يرحل الوالدان عن الدنيا، ولكن أثرهما لا يغيب. يبقى في لهجة صوتك، في طريقة مشيك، في ذكاء قراراتك، وفي دعائك حين تخلو بنفسك. يبقى في كل مرة تقول فيها "الله يرحمك يا أبي" أو "الله يسعد روحك يا أمي"، وكأنك تعيد ترتيب قلبك من جديد.

الذين عرفوا قدر آبائهم وأمهاتهم لم يخسروا في الحياة شيئا. الفقد نفسه يتحول معهم إلى نور. يلبس الحزن ثوب حكمة، ويتحول الشوق إلى دعاء، ويتحول الفراغ إلى قوة تدفعهم ليصبحوا أفضل، لأنهم يعلمون أن كل نجاح يصل إليه الابن هو امتداد جميل لخطى والديه.

حين تبر والديك... فإنك تبر نفسك مستقبلا، كل يد تمسح بها على تعب والديك ستعود إليك يوما مسحا على قلبك. وكل كلمة طيبة تهديها لهما، ستقف بجانبك حين تحتاج إلى كلمة واحدة فقط تعيد روحك إلى مكانها.

هذا الكون قائم على قانون خفي:
من أكرم والديه، أكرمه الله من حيث لا يحتسب. قد تفتح لك الحياة أبوابا ما كنت تتوقعها، لا لأنك الأقوى أو الأذكى، بل لأن رضا أحد الوالدين طرق باب السماء فاستجابت الملائكة له.

بر الوالدين ليس قصة تروى، بل حياة تعاش. هو أثر يسبقك، ونور يمشي أمامك، وسلام داخلي لا يشبهه شيء.
ولعل أعظم ما نتركه لأنفسنا في هذه الدنيا هو قلب عطوف يعرف قدر من تعبوا لأجلنا، فيكبر بحبهم، ويزدهر ببرهم، ويصافح المستقبل برضاهم.

اللهم ارزقنا بر آبائنا وأمهاتنا أحياء وأمواتا، واجعلنا امتدادا جميلا لأرواحهم، وبلغهم من الدعوات ما يطمئن به خاطرهم، ويسعد به مقامهم.

وبروا... فالأيام لا تعيد أجمل ما تفوتونه.