مطير سعيد الزهراني

رحلة في المتاهة الصامتة

الأحد - 30 نوفمبر 2025

Sun - 30 Nov 2025



في اللحظة التي يغلق فيها باب القاعة الجامعية، يبدأ مشهد لا تدركه العيون، عشرات الأجساد تجلس في صمت منظم، بينما خلف كل وجه طبيعي يختبئ كون معرفي مضطرب، عقل يتأرجح بين الخوف والفضول، بين الرغبة في الفهم وهاجس الإخفاق، وهناك داخل الأدمغة المرهفة، تشتعل آلاف الخلايا العصبية، وتختبر شبكات الانتباه حدودها، وتتفاوض الذاكرة القصيرة مع الذاكرة العميقة حول ما يستحق البقاء وما يجب أن يطوى في النسيان، وفي الأحياء الخفية من هذا العقل، يسكن سؤال وجودي لا يهدأ: لماذا أتعلم هذا؟ وما جدواه في حياتي؟

إن الدخول إلى عقل الطالب الجامعي يشبه اقتحام متاهة صامتة؛ في أحد أركانها يسيطر القلق، وفي آخر يتوهج الفضول، وبينهما تتقاطع الحاجة إلى الأمان مع توق خفي للوصول إلى معنى، فعلى المستوى النفسي، يظل الطالب أسيرا لأول سؤال غير منطوق: هل يسمح لي أن أخطئ؟ فالأمان النفسي مهم لأنه الشرط الذي يفتح الدماغ للتعلم، وفي غيابه تنشط مناطق الحذر والدفاع، وفي حضوره تتحرر قشرة الدماغ الأمامية لتستقبل وتبدع وتبتكر.

غير أن العقل لا يتوقف عند الأمان، فهو مبرمج على البحث عن الغاية، فالطالب مهما بدا مستسلما، يطرح في داخله سؤالا أكثر حدة: ما علاقة هذا بما سأعيشه غدا؟ هنا يتحدد مصير المعرفة: إما أن تبقى نصوصا جامدة تستعاد في قاعة الامتحان ثم تنسى، أو تتحول إلى جسر يربط بين الدرس والواقع، بين المقرر والهوية، بين النظرية والحياة، وهذا هو المعنى الذي يحول المعرفة من عبء إلى خبرة، ومن حفظ قصير الأمد إلى تعلم ممتد.

وتظل الرحلة داخل عقل الطالب محفوفة بالتشتت، فالهاتف يومض، والضغوط الشخصية تتسرب إلى القاعة، والأفكار الجانبية تنافس ما يقال، ولا سبيل لإنقاذ الوعي إلا بالتفاعل، ولذلك فالحوار يعد ضرورة عصبية تبقي شبكات الانتباه نشطة، وكل سؤال يطرحه الأستاذ، وكل نقاش، وكل دعوة إلى التفكير، هي بمثابة ومضات كهربائية تعيد رسم خريطة الدماغ، وتجعل الطالب جزءا من صناعة المعرفة لا مجرد متلق صامت.

وعلى مستوى أعمق، يكشف لنا تفكيك عقل الطالب عن تعدد أنماط التعلم فيه، فليس هناك عقل نموذجي واحد: فبعض الطلاب يفكرون بالصور، وبعضهم بالأرقام، وبعضهم لا يدرك إلا إذا مارس بيديه، والقاعة التي تختزل الجميع في نمط واحد تمارس إقصاء خفيا، بينما القاعة التي تنوع أدواتها وأساليبها تمنح لكل عقل مرآته الخاصة، وتحول المحاضرة إلى فسيفساء يتناغم فيها الاختلاف.

ويبقى الأستاذ هو العنصر الحاسم في هذه الرحلة، فالطالب لا يقرأ ما على السبورة فقط، بل يقرأ شغف أستاذه، ونبرته، وصدقه، وحضوره، وفي داخله يتشكل حكم صامت: هل يستحق هذا الدرس أن يشغل جزءا من حياتي؟ فإذا وجد الحماسة في أستاذه، انفتحت آليات الاقتداء داخله، وانتقلت عدوى الفضول، أما إذا غاب الشغف، فإن أقوى المناهج تنطفئ قبل أن تجد موطئا في الذاكرة.

وحين تنطفئ أضواء القاعات، ويغادر الطلاب مقاعدهم، يبقى في الداخل أثر لا يرى، فالمحاضرة ليست دقائق معدودة مبنية على جدول الكتروني، بل هي تجربة تحدد إن كان الطالب سيحمل معه عبئا آخر من المعلومات الزائلة، أم سيخرج بومضة تنير له طريقا أبعد من الامتحانات، وهنا عند تفكيك عقل الطالب، يتبين بوضوح أنه ليس متلقيا صامتا ولا وعاء فارغا، بل ذات قلقة متطلعة، تتغذى على الأمان كما تتغذى على المعرفة، وتبحث عن المعنى بقدر ما تبحث عن النجاح.

وأخيرا، إن القاعة الجامعية في حقيقتها، ليست جدرانا ولا سبورة ولا شرائح معروضة؛ إنها مرآة يطل فيها الطالب على نفسه، ويقيس من خلالها قيمة ما يتعلم، فإذا أدرك المحاضر أن ما أمامه ليس أجسادا مصطفة، بل عقول متشابكة تبحث عن مغزى وجودها، تحولت آنذاك المحاضرة من حدث عابر إلى ولادة معرفية جديدة، وعندها فقط نعي أن كل رحلة داخل عقل الطالب هي في جوهرها رحلة داخل مستقبلنا جميعا.