الذهب الأبيض في المياه السعودية
الثلاثاء - 25 نوفمبر 2025
Tue - 25 Nov 2025
في خضم السعي العالمي المحموم نحو تأمين مصادر الطاقة النظيفة والموثوقة، تبرز المملكة العربية السعودية ليس فقط كمنتج تقليدي للطاقة، بل كقوة صاعدة ترسم ملامح مستقبل تخزين الطاقة العالمي. تبدأ قصتنا من واقع التحدي الهندسي والاقتصادي الذي يواجه شبكات الكهرباء العالمية اليوم، وهو الحاجة الماسة لتخزين الطاقة المتجددة لضمان استقرار الشبكة على مدار الساعة.
لسنوات طويلة، هيمنت بطاريات الليثيوم-أيون على المشهد العالمي للتخزين، ولكن الاعتماد المفرط على معادن مثل الليثيوم والنيكل والكوبالت - التي تتسم بسلاسل إمداد معقدة، وموارد محدودة جغرافيا، وأسعار متقلبة - يضع استراتيجيات الأمن الطاقوي للدول الكبرى على المحك.
في هذا السياق الاستراتيجي، تلتفت المملكة، برؤيتها الثاقبة للمستقبل، نحو بديل استراتيجي واعد يكمن حله في قلب مواردنا الطبيعية الوفيرة، وهو تقنية بطاريات الصوديوم-أيون (Sodium-Ion Batteries).
إن ما يجعل هذه التقنية ذات بعد وطني استراتيجي عميق هو الكيمياء البسيطة التي تعتمد عليها، والتي تتناغم مع ثرواتنا الطبيعية. فالصوديوم، العنصر الشقيق لليثيوم في الجدول الدوري، هو رابع أكثر العناصر وفرة على سطح الأرض. وبالنسبة للمملكة العربية السعودية، التي تعد أكبر منتج للمياه المحلاة في العالم، فإن «المحلول الملحي» (Brine) الناتج عن محطات التحلية المنتشرة على سواحلنا ليس مجرد مخلفات ثانوية، بل هو منجم غني بالصوديوم عالي النقاء. هذا يعني أن المملكة تمتلك ميزة تنافسية جيولوجية وصناعية هائلة تمكنها من توطين سلسلة الإمداد لهذه البطاريات بالكامل، بدءا من المادة الخام المستخرجة من مياهنا، وصولا إلى المنتج النهائي المصنع في مدننا الصناعية، دون الحاجة للاعتماد على واردات خارجية قد تتأثر بالتوترات الجيوسياسية العالمية. إن الاستثمار في استخلاص الصوديوم وتصنيع البطاريات محليا يتماشى تماما مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 الرامية إلى تنويع القاعدة الصناعية، تعزيز المحتوى المحلي، وقيادة سلاسل القيمة العالمية في قطاع الطاقة.
من الناحية الهندسية والفنية، تقدم بطاريات الصوديوم-أيون حلا مثاليا ومفصلا لتحديات بيئتنا الصحراوية القاسية. فبينما تعاني بطاريات الليثيوم التقليدية من تدهور سريع في الأداء والحاجة المستمرة إلى أنظمة تبريد سائلة مكلفة ومعقدة عند ارتفاع درجات الحرارة، تظهر بطاريات الصوديوم-أيون استقرارا حراريا متفوقا وقدرة مذهلة على العمل بكفاءة عالية في درجات حرارة قد تتجاوز الـ60 درجة مئوية. هذه الميزة الهندسية تعني تقليل تكاليف التشغيل والصيانة لأنظمة تخزين الطاقة على نطاق الشبكة (Grid-Scale Energy Storage) التي يتم نشرها لدعم مشاريع الطاقة الشمسية العملاقة في مناطق مثل سكاكا وسدير وغيرها. إن التخلص من الحاجة إلى أنظمة تبريد معقدة لا يقلل فقط من التكلفة الرأسمالية للمشروع، بل يرفع من الموثوقية العامة للنظام، ويجعل تكلفة تخزين الكيلووات/ساعة أكثر جدوى اقتصاديا لمشاريع المرافق العامة.
علاوة على ذلك، تتميز هذه البطاريات بخصائص شحن سريع ممتازة ودورة حياة طويلة، مما يجعلها الخيار الأمثل لتطبيقات «تثبيت الشبكة» وإدارة الأحمال في أوقات الذروة الصيفية التي تشهدها المملكة. ورغم أن كثافتها الطاقية قد تكون أقل قليلا من نظيراتها المعتمدة على الليثيوم، مما قد يحد من استخدامها في السيارات الكهربائية التي تتطلب مدى طويلا جدا، إلا أنها تعتبر مثالية تماما للمركبات الحضرية الصغيرة، ولتطبيقات التخزين الثابتة الضخمة، حيث لا يمثل الوزن عائقا كبيرا مقارنة بالتكلفة والموثوقية.
إن تبني المملكة لهذه التقنية وتطويرها عبر مراكزنا البحثية الوطنية والجامعات السعودية يمثل خطوة استباقية لكسر احتكار تقنيات التخزين التقليدية، ويؤسس لصناعة وطنية مستدامة تعتمد على «الذهب الأبيض» المتوفر في مياهنا، لنكون مصدرين لتقنيات الطاقة المتقدمة للعالم كما كنا دائما المورد الموثوق للطاقة.
HUSSAINBASSI@