أحمد مجرشي

من يده في الماء ليس كمن يده في النار

الأحد - 23 نوفمبر 2025

Sun - 23 Nov 2025

الإنسان ليس عقلا ومنطقا فقط، فلو كان كذلك لكان مثل الآلة، لكنه مع العقل والمنطق مشاعر وأحاسيس وانفعالات، ولا يزال الصراع قائما بين العقل والقلب، فأحيانا يغلب هذا وأحيانا يغلب هذا، وفي النهاية القرار واحد، لكن من الذي غلب الآخر على إصدار القرار وربما الإصرار عليه؟ العقل والمنطق ولتذهب المشاعر في الهواء؟ أم العاطفة والمشاعر وليضرب بالعقل والمنطق عرض الحائط؟

هذه النظرية تفسر لنا كثيرا من تصرفات البشر، وتبين لنا التناقض (إن كان فعلا تناقضا) الذي نراه في كثير من المواقف حولنا.

فالشخص الذي يستميت للصلح بين اثنين متخاصمين ويبذل من جهده ووقته وربما من ماله من أجل تقريب وجهات النظر بينهما ويبين لهما بكل ما يستطيع من علم وأسلوب أن الخلاف شر وأن الصلح خير هو نفسه الذي يسعى الناس بينه وبين خصمه بكل ما أوتوا من علم وأساليب ليبينوا له أن الخلاف شر وأن الصلح خير.

والذي يسعى لإقناع صاحب الدم بالتنازل عن حقه في القصاص هو نفسه من تساق له (الجاهيات) من أجل إقناعه بالتنازل عن حقه في القصاص.

عندما قتل جساس بن مرة كليبا قال الحارث بن عباد حكمته المشهورة التي تناقلتها العرب "الدية عند الكرام الاعتذار" وعندما قتل ابنه جبير على يد الزير سالم شعر بألم الفقد واشتعل في نفسه حق الثأر فقال "لأقتلن به عدد الحصى والنجوم والرمال" فالكل حكيم عندما لا تكون المصيبة مصيبته.

وقبل هذا وبعده فالسعي في الإصلاح أو المواساة أمر محمود ومطلوب ومرغب فيه، والحكاية كلها أن القرارات ينازعها في الحالين المنطق والعواطف، فهنا حضر العقل وغلبت المشاعر - وربما كانت المشاعر أصلا غائبة لأن المصيبة ليست مصيبتك - وهناك حضرت المشاعر بكامل قوتها فغلبت العقل وربما ألغته بالكلية.

ورأيي الشخصي - ولكل شخص رأيه - أن هذه الحالات ليس فيها صواب وخطأ، ولكن فيها تطرف لأحد طرفي القصد، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والحكيم من يستطيع أن يقرب الناس من الطرف إلى الوسط، يقربهم إلى نقطة التعادل بين العقل والعاطفة فلا تغلب العاطفة فتكون القرارات غير مدروسة وغير منطقية، ولا يغلب العقل المجرد فتهمش العاطفة فتؤثر على نفسيات الناس فيخرج لنا أناس غير مستقرين نفسيا، وكلا الحالتين مذمومة.

وإذا أردت تقريب وجهات النظر حاول قدر المستطاع أن تكون في موقف الطرف الذي أمامك، وأقول قدر المستطاع لأنك لن تستطيع الوصول للحزن الذي يشعر به وهو صاحب الفقد، ولن تستطيع أن تكون مثله في تشتت التفكير ورؤية الأمور من زاويته، لكنك كلما اقتربت من حالته استطعت أن تتحدث معه بلغة أقرب إلى استيعابه، وأقرب إلى فهمه، وبالتالي تكون أقرب إلى إقناعه وتغيير تفكيره، وتوجيهه للرأي الأصوب، فأنت لن تستطيع الإمساك بالحصان الجامح إلا إذا ركضت بجانبه بالسرعة نفسها، عندها يمكنك الإمساك به وتوجيهه أو إيقافه، أما إذا حاولت إيقافه وهو مسرع وأنت واقف في مكانك فلن تستطيع الإمساك به وربما يؤذيك، وهذا ما يواجهه من ينصح صاحب المصيبة بكلام منطقي بحت خال من العاطفة والتعاطف فربما وجد منه ردة فعل تؤذيه.

أيها السادة، للعقل مكانه، وللعاطفة مكانها، ومن ينظر للأمور من خارج الدائرة تختلف نظرته عمن هو في معمعة الحدث، ومن يده في الماء يستطيع التفكير والتنظير، ومن يده في النار مشتت التفكير، وهنا لا يحسن من الأول التنظير، وينتظر من الآخر أن يقتنع بسهولة أن الصلح خير.