حاتم بارجاش

لماذا نسميه «مجلس إدارة» وليس «مجلس حوكمة»؟

الاثنين - 27 أكتوبر 2025

Mon - 27 Oct 2025



تبدو كلمة «حوكمة» اليوم مألوفة في لغة المؤسسات، لكن أصلها اللغوي أقدم بكثير مما نظن. فالجذر الإغريقي kybernan يعني «توجيه السفينة»، وهو الجذر نفسه الذي اشتقت منه لاحقا كلمات مثل govern وcybernetics. ومن هنا، فالحوكمة ليست سلطة، بل فن التوجيه.

لكن السؤال الذي يثير التأمل:
لماذا ما زلنا نستخدم مصطلح مجلس إدارة، وليس مجلس حوكمة، رغم أن وظيفة المجلس لم تعد «الإدارة» بالمعنى التنفيذي.

من «التوجيه» إلى «الإدارة»: تطور المعنى
في بدايات الشركات المساهمة في إنجلترا خلال القرن السابع عشر، كان المساهمون يعينون من يدير أموالهم مباشرة، لذا ظهر مصطلح Board of Directors - أي: مجلس المديرين.

لكن مع تطور الفكر الإداري، تميزت وظيفة المجلس عن وظيفة الإدارة التنفيذية.

فأصبح المجلس يضع الرؤية والحدود والمخاطر، بينما تتولى الإدارة التنفيذية التنفيذ اليومي.

أي أن المجلس يوجه ويشرف (Govern)، لا يدير (Direct).

ومع ذلك، بقي الاسم القانوني التاريخي كما هو، لأن تغييره يعني إعادة كتابة قوانين الشركات في العالم.

بين الـDirector والـGovernor

الفرق بين Director وGovernor ليس لغويا فحسب، بل مؤسسي أيضا:
- الـDirector يوجه مؤسسة نحو الربح والكفاءة.
- الـGovernor يوجه نظاما كاملا نحو الاستقرار والمصلحة العامة.

ولهذا نسمي في السعودية محافظ البنك المركزي (Governor) وليس «مدير البنك المركزي»، لأن دوره حوكمي وتنظيمي لا تشغيلي.

ولو أعيدت كتابة قوانين الشركات اليوم، لربما أصبح اسم المجلس في القطاع الخاص Board of Governors لا Board of Directors، كما أشار لذلك المفكر البريطاني بوب تريكر - الأب الروحي لعلم الحوكمة المؤسسية.

الحوكمة والإدارة والتأكيد: مثل السلطات الثلاث في الدولة

تؤكد مناهج الحوكمة الحديثة (مثل OCEG GRC وISO 37000) أن موثوقية أي مؤسسة تقوم على ثلاث وظائف متكاملة:
- الحوكمة
‏Governance وظيفتها وضع الاتجاه والقيم والمبادئ، وهي تعادل السلطة التشريعية.

- الإدارة
‏Management وظيفتها تنفيذ السياسات والأهداف وتعادل السلطة التنفيذية.

- التأكيد
‏Assurance وظيفتها التحقق والرقابة المستقلة، وتعادل السلطة القضائية.

كما أن الدولة لا تستقر إلا بتوازن السلطات الثلاث، كذلك لا تكون المؤسسة موثوقة إلا بتكامل التوجيه، التنفيذ، والمراجعة.

فالحوكمة تضع البوصلة، والإدارة تبحر بالسفينة، والمراجعة تضمن أنها لم تنحرف عن المسار.

ختاما، اللغة ليست مجرد كلمات، بل مرآة للفكر. حين نسمي المدير من يدير اليوميات، والمحافظ من يحكم بالنظام، والمجلس من يوجه الكيان، نحن نعكس فلسفة عميقة ترى في القيادة فن التوجيه لا التسلط.

القرن القادم ربما يشهد تحولا من الإدارة إلى الحوكمة بوصفها أعلى أشكال القيادة المؤسسية، ومن يدرك هذا المعنى يدرك أن أعظم القادة... هم من يوجهون السفينة، لا من يمسكون بالمجداف.

hatimbarajjash@