التصميم المستدام والذائقة المجتمعية
السبت - 25 أكتوبر 2025
Sat - 25 Oct 2025
يعتقد البعض أن عملية التصميم العمراني تنتهي بمجرد اعتماد المشروع والبدء في تنفيذه، وهو تصور غير دقيق. فعملية التصميم في جوهرها تبدأ بجمع البيانات وتحليل طبيعة الموقع ودراسة احتياجات المستخدمين، مع استيعاب جميع المدخلات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، بما في ذلك التشريعات العمرانية والثقافة المحلية. ولا تنتهي هذه العملية بتنفيذ المشروع، إذ تعد مرحلة التقييم والمتابعة جزءا أساسيا من دورة التصميم المستدام، لكونها تساعد في استجلاء احتياجات المستخدمين ومواءمة المنتج العمراني مع المجتمع المحلي.
عندما نزور مجمعا تجاريا أو حديقة عامة أو مرفقا حكوميا، ونجد صعوبة في الوصول إلى دورة مياه، أو نضطر إلى الاستفسار والسؤال مرارا حتى نصل إلى وجهتنا، فإن ذلك يعد خللا يعكس غياب التصميم الشامل الذي يراعي وضوح الإرشادات البصرية وسهولة التنقل داخل المكان. قد نغادر بعض المجمعات التجارية دون رغبة في العودة إليها مجددا بسبب قلة مواقف السيارات، أو عدم وجود مسارات آمنه تتكيف مع احتياجات المعاقين، أو ضعف خيارات النقل البديلة التي تتيح الوصول مشيا على الأقدام أو عبر وسائل النقل العام. وفي أحيان أخرى، قد نلغي رحلة عائلية أو حجزا في فندق لعدم توفر دورات مياه نظيفة أو شطاف مياه أو إضاءة كافية في المكان، أو وجود نقص في التجهيزات التي تراعي احتياجات مختلف المستخدمين. على سبيل المثال، المراحيض الغربية تعتمد على وضعية الجلوس شبه القائم، بينما تتطلب المراحيض الأرضية وضعية القرفصاء، وهي وضعية قد لا تلائم كبار السن أو ذوي الإعاقة الحركية.
إن غياب مثل هذه التفاصيل الدقيقة في التصميم أو التجهيزات المساندة لا يعد مجرد قصور في الإطار الوظيفي فحسب، بل يؤثر بصورة مباشرة على تجربة المستخدم، ويضعف من الجدوى الاقتصادية للمكان، خصوصا في المجمعات التجارية والمرافق العامة ذات الطابع الاستثماري. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى إعادة قراءة مفهوم التصميم العمراني باعتباره عملية مستمرة لا تتوقف عند مرحلة التنفيذ، بل تمتد إلى ما بعد الاستخدام من خلال آليات التغذية الراجعة، التي تمكن المصممين والجهات المعنية من فهم سلوك المستخدمين وتوقع احتياجاتهم المستقبلية.
إن تطوير آليات لقياس آراء الزوار والمستفيدين سواء عبر المنصات الرقمية أو عبر فرق ميدانية مختصة يعد خطوة جوهرية في تطوير المنتج العمراني وتحسين جودة الحياة في المدن. فالمكان الناجح هو الذي يتطور مع مستخدميه، ويستجيب لتغير احتياجاتهم، ويعكس في تفاصيله قيم الثقافة المحلية ومتطلبات الحياة المعاصرة.
من هذا المنطق، يمكن القول إن التصميم العمراني المستدام لا ينبغي أن ينظر إليه كمحصلة نهائية بقدر ما هو منظومة ديناميكية تتطور باستمرار. فنجاح المدن المعاصرة لم يعد يقاس بتكامل بنيتها التحتية، بل بقدرتها على التعلم من تجربة المستخدم وتطوير بيئاتها العمرانية. وتعد هذه العملية أحد أهم ركائز الحوكمة الحضرية، إذ تتيح إشراك المجتمع في تقييم الأداء المكاني، وتعزز الشفافية في صناعة القرار العمراني.
ويعد إشراك السكان والمستفيدين في مراحل ما بعد التنفيذ أحد المؤشرات الرئيسة على نضج العملية التخطيطية، إذ تسهم هذه الممارسات في تصحيح مسار المشروعات المستقبلية وتوجيه الموارد نحو تحسين جودة الحياة الحضرية.
ختاما، فإن المدن التي تتبنى نهجا تكامليا في تصميمها العمراني، يجمع بين المعرفة العلمية والمشاركة المجتمعية، ستكون أكثر قدرة على تحقيق التوازن بين الوظيفية والذائقة المجتمعية.