تركي القبلان

فن إدارة أوراق القوة: نحو مقاربة سعودية جديدة في تعريف السياسة

الأحد - 07 سبتمبر 2025

Sun - 07 Sep 2025



ظل تعريف السياسة عبر التاريخ واحدا من أكثر المفاهيم إشكالية في الفكر الإنساني، فبين من رأى فيها فن الحكم، ومن اختزلها في إدارة الصراع أو توزيع القوة داخل المجتمع، ومن اعتبرها علم الفعل الممكن، بقيت السياسة حقلا متنازعا بين الفلسفة والواقعية، بين التنظير الأخلاقي والتدبير البراغماتي.

منذ بدايات الفكر الإنساني ارتبطت السياسة بفكرة القوة وتنظيمها داخل المجتمع والدولة: فأفلاطون رآها علم الفضيلة والحكم العادل، وأرسطو اعتبرها فن التدبير العام للحياة المشتركة. وفي العصور الوسطى، دمج توما الأكويني الفلسفة المسيحية باليونانية، بينما قدم الماوردي في الفكر الإسلامي السياسة كفن حفظ الدين وإصلاح الدنيا. ومع عصر النهضة اختزلها ماكيافيلي في الحفاظ على السلطة، لتتطور لاحقا مع هوبز في فكرة العقد الاجتماعي، ولوك في حماية الحقوق الطبيعية، وروسو في الإرادة العامة، وصولا إلى ماكس فيبر الذي صاغها كمسعى إلى القوة وتوزيعها داخل الدولة.

وفي القرن العشرين، ركز الواقعيون المحدثون مثل هانز مورغنثاو على السياسة كصراع على القوة والمصلحة، قبل أن يأتي جوزيف ناي ويوسع المفهوم عبر إدخال القوة الناعمة والثقافية. ورغم ثراء هذه الأدبيات، إلا أنها بقيت أسيرة الإطار الغربي ولم تنتج تعريفا أصيلا منبثقا من البيئة العربية وسياقاتها الخاصة.

في هذا السياق، أطرح مقاربة جديدة يمكن اعتبارها نواة لتعريف (عربي - سعودي) للسياسة، مفادها «السياسة هي فن إدارة أوراق القوة، فكلما تنوعت أدواتك اتسعت قدرتك على تحقيق الأهداف».

هذا التعريف يتجاوز منطق الحيازة إلى منطق الإدارة: فهو لا يكتفي بالقول إن السياسة قوة، بل يرى أن جوهرها هو فن توظيف هذه القوة في اللحظة والسياق المناسبين. ومن هنا تتأسس خصوصيته: تكثيف عملي، وانفتاح على البعد الرمزي، وإطار مرن يتجاوز النظرة الأحادية للصراع أو التعاون.

الخلاصة، إن جميع هذه المقاربات وإن اختلفت في اللغة والزاوية، إلا أنها التقت عند ربط السياسة بالقوة، وهو ما يمهد للتعريف كما أراه الذي يجعل من إدارة أوراق القوة جوهرا للسياسة. وبمقارنة تحليلية نجد أن مدارس الفكر السياسي الحديثة في القرن العشرين تبلورت في ثلاث مدارس رئيسية: ورغم إثراء الأدبيات الحديثة للمفهوم - من الواقعية إلى الليبرالية والبنائية، ومن القوة الصلبة إلى الناعمة والذكية - إلا أن هناك حاجة لإطار تكاملي ينطلق من السياق العربي ويستوعب تعقيدات العصر الراهن.

من خلال هذا التعريف الذي توصلت إليه فإنني أقدم إطارا جامعا يتجاوز الثنائية بين الصراع والتعاون، ويعيد السياسة إلى جوهرها: فن إدارة الأوراق المتعددة. إذا ما قلنا إن القوة تتوزع في أربع دوائر رئيسية: (القوة الصلبة، القوة الناعمة، القوة الرمزية: الهوية، القوة الذكية) بهذا المعنى، لا تختزل السياسة في ورقة واحدة، بل هي إدارة «سلة أوراق» متنوعة تمنح الفاعل قدرة مضاعفة على المناورة وتحقيق الأهداف.

التمييز الجوهري الذي أقدمه وفق هذا التعريف يكمن في التفريق بين امتلاك الموارد وإدارة الموارد. فالنفوذ لا ينبع من حجم ما تملكه الدول، بل من كيفية إدارة هذا المخزون عبر الزمان والمكان. السياسة وفق هذا المنظور هي فن التدبير الذكي، أي تحويل الإمكان إلى واقع، وتحويل المصلحة إلى مشروع مستدام.

ومن هنا المقاربة السعودية، إذ تجربة المملكة العربية السعودية المعاصرة تمثل تجسيدا عمليا لهذا التعريف:

- الورقة الاقتصادية: الانتقال من الاعتماد على النفط إلى التنويع عبر رؤية 2030.

- الورقة الرمزية: المكانة الدينية للحرمين الشريفين وخطاب الاعتدال.

- الورقة الجيوسياسية: الموقع الحيوي والتحالفات الديناميكية.

- الورقة الثقافية: توظيف القوة الناعمة، من خلال الاستثمار في الفنون والرياضة والترفيه والإعلام العالمي، بما يحول الثقافة إلى أداة نفوذ وتأثير في الإدراك الدولي، ويربط الداخل السعودي بالعالم في إطار التواصل الحضاري.

وبالتالي لم تعد السعودية دولة ذات مورد واحد، بل تحولت إلى فاعل يدير سلة واسعة من الأوراق، ما جعلها مركزا لإعادة صياغة التوازنات الإقليمية والدولية.

لقد أثبت تاريخ الفكر السياسي أن السياسة ارتبطت دائما بالقوة، لكن مقارباته بقيت أحادية البعد، إما صراعا أو تعاونا أو عقدا اجتماعيا.

التعريف الجديد الذي أقدمه «السياسة هي فن إدارة أوراق القوة»، يقدم إضافة نوعية، إذ يجعل السياسة فنا للتدبير المرن لموارد متعددة، ويحررها من ضيق الحيازة إلى رحابة الإدارة.

المقاربة المقترحة لا تدعي الكمال أو الشمولية المطلقة، بل تسعى لتقديم إسهام في تطوير فهم عربي أصيل للسياسة. إنها دعوة للانتقال من استهلاك النظريات إلى إنتاجها، ومن تقليد النماذج إلى ابتكارها.

ويجد هذا التعريف ترجمته العملية في المقاربة السعودية الحديثة، حيث تدار أوراق القوة على نحو استراتيجي يوسع دائرة الفعل السعودي ويؤسس لبداية نظرية سعودية في الفعل السياسي. نظرية تستند إلى فلسفة الإدارة، لا مجرد الامتلاك، وتفتح أمام الفكر العربي أفقا جديدا لفهم السياسة في زمن التحولات الكبرى.

وفي النهاية، تبقى هذه محاولة في طور البناء، تحتاج للنقد البناء والتطوير المستمر والاختبار التطبيقي لتنضج وتصبح إطارا نظريا قادرا على المساهمة الفعلية في فهم السياسة وممارستها في عالمنا العربي المعاصر.