حذامي محجوب

ذاكرة الصراع وتجاهل معاناة الفلسطينيين

السبت - 16 نوفمبر 2024

Sat - 16 Nov 2024

منذ أكثر من عام، يُنظَر إلى مقتل عشرات الآلاف من نساء وأطفال وشيوخ فلسطين، في غزة من قبل الاسرائيليين كأمر طبيعي بل كـ«أضرار جانبية» لا مفر منها في كل الحروب.
ما الذي يفسر الانعدام التام لتعاطف اغلبية الاسرائيليين وتراجع القيم الإنسانية إلى هذا الحد لديهم؟.
ما الذي يفسر هذه النظرة الدونية التي لم يعد يُنظر فيها إلى الفلسطيني كـ«آخر» ولا يُعامل كإنسانٍ.
يبدو ان غياب الشعور بالتعاطف له جذوره التاريخية التي منها ما يعود إلى تفاسير دينية ومنها ما يعود إلى زمن التأسيس الاول للدولة اليهودية.
رغم أن الرد الإسرائيلي على هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023 يبدو دفاعا عن النفس، فإن حجم المجازر التي ارتكبت بهذا الاسم يطرح تساؤلات أخلاقية عميقة.
لان ما يحصل على ارض غزة «إبادة جماعية» و «تطهير عرقي» باتم معنى الكلمة.
كل من يملك حسّا إنسانيًا يندد بفظاعة الجرائم المرتكبة.
في المقابل تتجاهل السردية الوطنية الإسرائيلية النكبة الفلسطينية سنة 1948 وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، إذ تُلقي اللّوم و المسؤولية على العرب باعتبارهم رفضوا تقسيم فلسطين عام 1947 وغادروا طواعية.
ومع هذا الإنكار، استقبلت إسرائيل الآلاف من الناجين من محرقة «الهولوكوست»، مما أسهم في تقديس دورها كملاذٍ آمن، لكن الفلسطينيين ليست لهم ايّ مسؤولية و لم يكونوا بتاتا طرفًا في تلك المأساة.
وقد أصبح تهميشهم قاعدة عامة، وتزايدت معاناتهم مع تحولهم إلى عمالة رخيصة في الأراضي المحتلة، حيث استهان الإسرائيليون بقدراتهم الإنسانية ومكانتهم.
في الضفة الغربية وغزة، حول الاحتلال الفلسطينيين إلى قوّة عمل محتقرة، أسهم بذلك في زيادة الشعور بالعزلة.
لم تعد الجدران والحواجز التي وضعتها إسرائيل كافية لتحقيق الأمان، بل على العكس، عمقت الكراهية وأصبحت عنوانًا للتفرقة بين «نحن» و«هم»، أدت إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتقديمهم كأعداء يستحقون الانقراض والفناء.
في هذا السياق، يظهر مفهوم «العماليق» في الذاكرة اليهودية، الذي يرمز إلى العدو الأبدي والشر المطلق الذي يهدد الوجود اليهودي، وهو تصوّر متجذر في النصوص التوراتية،
«العماليق» هم قبيلة قديمة في الكتاب المقدس اليهودي، يقال انهم من نسل عمليق بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح ويعتقد كذلك انهم احفاد عيسو، شقيق يعقوب،وهي تظهر في العديد من النصوص الدينية، خصوصًا في التوراة.
يُعتبرون أعداء تاريخيين لليهود، حيث يُذكر أن «عماليق» هم اهل قوة وبأس، كان أول من هاجم بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر في طريقهم الى ارض كنعان أثناء فترة تيههم في الصحراء.
في النصوص الدينية اليهودية، يُعتقد أن «عماليق» كان يمثل قوى الشر، وكان يُنظر إليهم كأعداء شرسين تجاه الشعب اليهودي. وفقًا للتوراة، لا سيما في سفر الخروج وفي سفر التثنية (25:17-19)، يُطلب من اليهود محاربة «عماليق» والتخلص منهم لأنهم أظهروا عداءً تجاههم في وقت ضعفهم، وهذا يُعتبر بمثابة محاولة لتدميرهم.
القتال ضد «عماليق» يُعتبر واجبًا دينيًا في العقيدة اليهودية؛ فالنصوص الدينية تذكر أن «تذكر ما فعله بك عماليق» وتحث على القضاء على ذكراهم.
الأهمية الدينية لهذه السّردية تزداد في الفكر اليهودي التقليدي، حيث يرى البعض أن محاربة «عماليق» تتجاوز المعركة العسكرية إلى صراع رمزي ضد أي تهديد أو ظلم قد يواجهه اليهود في مختلف الأزمنة وتُسرد قصص لمعارك حاسمة مثل معركة رفيديم التي واجه فيها جيش يشوع بقيادة موسى «العماليق»، ما يرمز لصراع طويل الأمد مع الشر.
هذه الروايات، التي تفسر «العماليق» كرمز للأعداء الروحيين والمعنويين، تعزز منطق التعامل العدائي مع الفلسطينيين بوصفهم تهديدًا دائمًا بلغ أوجه مع هجوم 7 اكتوبر.
ورغم أن الخوف من الفناء لدى الشعب اليهودي متجذر في هذه التجربة التوراتية والتلمودية، التي ترى في «العماليق» العدو المطلق، إلا أن الدين اليهودي يحمل أيضًا جوانب أخرى تدعو إلى وحدة النوع البشري، إذ تذكرنا قصة إبراهيم الذي تفاوض لإنقاذ مدينة سدوم بهذا البعد باعتبارها قصة تعكس التوسط من اجل الرحمة الإلهية كان فيها إبراهيم رمزا للتعاطف مع البشرية ورغبته في النجاة للأبرار حتى في اوقات الفساد الكبير اذ بدأ المفاوضات مع الله بالتساؤل «هل تهلك الصالح مع الطالح ؟»، معبرا عن قلقه من معاقبة الصالحين مع الاشرار، ثم اقترح إبراهيم على الله ان ينقذ المدينة إذا كان فيها عدد من الأبرار، اي انه بدأ التفاوض بشكل تدريجي إلى ان انقذ غالبية الأرواح البريئة.
هذه التقاليد الدينية المتعارضة تدعونا إلى التساؤل: هل من الممكن أن تكون هناك مصالحة بين الذاكرة اليهودية وسلوكياتها تجاه الفلسطينيين اليوم؟ هل يمكن ان يستحضر الاسرائيليون إبراهيم وحرصه على عدالة السماء والتخلص من عبء «عماليق»؟.
في 7 أكتوبر، ارتكبت حماس فظائع لا يمكن إنكارها في إسرائيل، لكن لا يمكن أن يكون هذا ذريعة مستمرة للتغطية على الأمل في السلام. توماس مان اختصر الأمر في نص “الشريعة” عام 1943 بقوله: “كان من الممكن أن تكون «عماليق». ويمكن «لأطفال» أعدائك أن يكونوا «أطفالك». هذا القول يستدعي التفكر العميق في إنسانية الآخر والتعاطف المشترك، فقد آن الأوان لكلا الشعبين أن يقوما بدورهما في طريق السلام. يقول نيلسون مانديلا : «التحرر الحقيقي ليس مجرد التخلص من الأغلال، بل أن نعيش دون ثقل الماضي».