بشرى فيصل السباعي

مآسي التصحر العاطفي العام

الأحد - 03 نوفمبر 2024

Sun - 03 Nov 2024

لا يكاد الإنسان يكلم أحدا إلا ويسمع منه شكوى مريرة عن معاناته من جفوة أهل بيته، ناهيك عن الأقارب والأصدقاء والزملاء والجيران، وهي جفوة جعلت يوميات التعامل معهم يوميات جراح نفسية وعاطفية غائرة ولا يتوقف أثرها على الجانب النفسي والعاطفي؛ فحتى طبيا أثبت الأطباء أن الكرب المطول يؤدي لأمراض عضوية مزمنة مثل أمراض القلب والشرايين، ويؤخر فترة الشفاء من أي مرض أو إصابة أو عملية، كما أن جفوة الأهل سبب رئيسي للأمراض النفسية، وهناك دراسات طبية أثبتت أن الكرب الذي يشعر به الإنسان بسبب العمل ويتسبب له بأمراض مزمنة يمكن أن يتم تحييد أثره الضار بشكل كامل إن كان للإنسان بيئة عائلية محبة متعاطفة وداعمة.

مع العلم أن من يشتكون من الجفوة العائلية متواصلون باستمرار مع الأهل عبر الواتساب والاتصالات، لكنها تواصلات خالية من حضور العاطفة الحانية المتعاطفة والداعمة، ولذا لا تعوض عن التعاطف والحنان الذي يفترض أن يتضمنه التفاعل المباشر دون واسطة الأجهزة، فالأجهزة هي المدان الأكبر في مآسي التصحر العاطفي العام، لأنها جعلت علاقات الإنسان تكون مع الأجهزة بدل التفاعل العاطفي المباشر الشخصي العميق، فحتى عند تواجد الأهل في المكان نفسه لا يكونون حاضرين عقليا وعاطفيا فيه، فهم منشغلون دائما بالأجهزة التي بأيديهم، ولذا لا يحصل في مثل هذا الاجتماع إشباع للاحتياجات العاطفية.

كما أن هناك غيابا لثقافة الذكاء العاطفي التي تجعل الإنسان يقدر أهمية التعبير العاطفي بالنسبة للآخرين، وهناك غلبة للثقافة المادية الأنانية النرجسية التي تريد أن تأخذ فقط ولا تدرك أهمية العطاء المعنوي والعاطفي للآخرين، لذا هناك حاجة ماسة لنشر الوعي حول أهمية الحضور العاطفي والنفسي في التفاعلات العائلية ونشر ثقافة الذكاء العاطفي، بخاصة بالنسبة للآباء والأمهات، لأنهم يربون الأجيال ويغرسون فيهم الأنماط التي ستسير حياتهم طوال عمرهم.

كثير من الجفوة التي يشتكي منها الآباء والأمهات سببها أنماط هم غرسوها في أبنائهم دون وعي منهم، كما في المثال الشهير للابن الذي كان يحاول طوال الوقت أن يستأثر باهتمام والديه لكنهما كانا يتشغلان عنه، وعندما يكبر تنقلب الآية ويصبح الوالدان محتاجين للاستئثار باهتمام ولدهما لكنه يتشاغل عنهما، فالمهم في التربية هو تكريس جانب الحب والحنان والعطاء العاطفي لدى الأبناء، وذلك لا يكون عبر الكلام النظري إنما عبر السلوك الواقعي للوالدين وثقافة العائلة. وأعظم كنز وإرث يتركه الوالدان للأبناء هو الحب الذي يبقى يجمعهم حتى بعد استقلال كل واحد منهم في حياته ووفاة الوالدين، وكثير من الإخوة والأخوات يجعلهم الإرث المادي من ألد الأعداء لأنه لم يتم تكريس الإرث العاطفي فيهم.

وكثير من أسباب الطلاق مرجعه الشعور بالإحباط من جفوة الطرف الآخر، والطلاق للأسف أرخص من مراجعة طبيب نفسي مختص بالعلاقات الزوجية والأسرية بسبب التكلفة الفلكية له، مع العلم أن مراجعة مختص نفسي هو من أهم ما يمكن أن يعالج مشاكل الجفوة العائلية لأنها تكسب كل الأطراف الأنماط الإيجابية اللازمة لتحقيق الإشباع العاطفي للجميع، وتنبه الجميع إلى أنماطهم السلبية، وتدلهم على طرق التخلص منها، والأبناء عندما لا يحصلون على الإشباع العاطفي من الوالدين يلجؤون إلى البحث عن الإشباع العاطفي بالعلاقات المحرمة والصحبة السيئة أو سلوكيات الهروب كالإدمان.