فلسفة الجاحظ في صناعة المحتوى
الأحد - 20 أكتوبر 2024
Sun - 20 Oct 2024
عندما اضطر الجاحظ أن يواجه مشكلة إجراء حوار على لسان شخصياته في بعض القصص والنوادر التي رواها في كتابيه (البخلاء) و(الحيوان)؛ وبوعي حاسم لفنية العلاقة بين الشخصية وكلامها، ذهب الجاحظ إلى أبعد من تبسيط الفصحى على لسان شخصياته من العوام، إلى حد السماح بإسقاط الإعراب عندما يحتاج الحوار إلى ذلك.
ففي مستهل كتابه (البخلاء) ينبه القارئ: (وإن وجدتم في هذا الكتاب لحنا أو كلاما غير معرب ولفظا معدولا عن جهته فاعلموا أننا تركنا ذلك لأن الإعراب يبغض هذا الوجه، ويخرجه من حده...) أي يخرجه من الشكل الفني اللائق به حيث يجب أن تتطابق الشخصية مع كلامها.
ثم نراه يكرر الملاحظة نفسها في كتابه (الحيوان) حيث كان يضطر إلى سرد بعض النوادر على لسان أهل البادية، فينصح باستخدام الفصحى كما تجيء على ألسنة الشخصيات، ثم يوضح: (..... وأنا أقول: إن الإعراب يفسد نوادر المولدين، كما أن اللحن يفسد نوادر الأعراب ...)، أي أن الكاتب يراعي واقع الحال في الحوار، فلا يجعل ابن البادية الذي ما يزال يتكلم الفصحى، يغير لغته المحكية فيتكلم كأحد (المولدين) أو (البلديين) أي أهل المدينة، ويخلص إلى القول: (بأن إساءة استعمال اللغة هنا يجعل المعنى ينقلب إلى ضده مع انقلاب نظمه، وتتبدل صورته).
وأيضا؛ يعود إلى المسألة نفسها في كتابه (البيان والتبيين)، منتقلا من الكلام على الحوار المكتوب إلى الكلام على الحوار المروي؛ فيقول: (ومتى سمعت بنادرة من نوادر الأعراب فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيرتها بأن تلحن في إعرابها، وأخرجتها مخرج المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير، وإذا سمعت بنادرة من نوادر العوام فإياك أن تستعمل فيها الإعراب أو أن تتخير فيها لفظا حسنا أو تجعل لها من فيك - أي فمك - مخرجا سريا، فإن ذلك يفسد الإمتاع بها، ويخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له، ويذهب استنباطهم إياها واستصلاحه - أي الجمهور - لها)، وبهذا يصور الجاحظ طريقة إلقاء النادرة، وليس كتابتها فقط، فينصح الذي يقوم بدور الراوي أن يكون الكلام الذي ينقله على لسان شخصياته مطابقا للواقع، كما لو أن هذه النصيحة موجهة إلى مقدمي المحتوى في هذا العصر.
الجاحظ أدرك الشرطين اللذين يميزان هذا الفن: المتعة والتعليم أو (الإمتاع) والفائدة؛ حسب رأي الجاحظ، ولم يكن الجاحظ وهو أحد أسياد اللغة والبيان العربي يتحدث هنا كأديب؛ بل كفنان ومُعدّ ومقدم محتوى.
أخيرا، إن هذا الدرس الذي قدمه لنا الجاحظ بحدسه العبقري قبل ألف عام عن تقديم المحتوى؛ يصور ويصف بدقة حال معظم مقدمي المحتوى اليوم، أفرادا كانوا أو مؤسسات إعلامية أو جهات، والمحتوى المقصود هو الموثق والدقيق، الذي يستحق الطرح والتداول، ولعل فيه الجواب عن السؤال حول مدى الخسارة الفنية التي تصيب تأثير موادهم في واقعنا المعاصر فلا نشعر بها ولا يبقى لها أثر.
hq22222@
ففي مستهل كتابه (البخلاء) ينبه القارئ: (وإن وجدتم في هذا الكتاب لحنا أو كلاما غير معرب ولفظا معدولا عن جهته فاعلموا أننا تركنا ذلك لأن الإعراب يبغض هذا الوجه، ويخرجه من حده...) أي يخرجه من الشكل الفني اللائق به حيث يجب أن تتطابق الشخصية مع كلامها.
ثم نراه يكرر الملاحظة نفسها في كتابه (الحيوان) حيث كان يضطر إلى سرد بعض النوادر على لسان أهل البادية، فينصح باستخدام الفصحى كما تجيء على ألسنة الشخصيات، ثم يوضح: (..... وأنا أقول: إن الإعراب يفسد نوادر المولدين، كما أن اللحن يفسد نوادر الأعراب ...)، أي أن الكاتب يراعي واقع الحال في الحوار، فلا يجعل ابن البادية الذي ما يزال يتكلم الفصحى، يغير لغته المحكية فيتكلم كأحد (المولدين) أو (البلديين) أي أهل المدينة، ويخلص إلى القول: (بأن إساءة استعمال اللغة هنا يجعل المعنى ينقلب إلى ضده مع انقلاب نظمه، وتتبدل صورته).
وأيضا؛ يعود إلى المسألة نفسها في كتابه (البيان والتبيين)، منتقلا من الكلام على الحوار المكتوب إلى الكلام على الحوار المروي؛ فيقول: (ومتى سمعت بنادرة من نوادر الأعراب فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيرتها بأن تلحن في إعرابها، وأخرجتها مخرج المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير، وإذا سمعت بنادرة من نوادر العوام فإياك أن تستعمل فيها الإعراب أو أن تتخير فيها لفظا حسنا أو تجعل لها من فيك - أي فمك - مخرجا سريا، فإن ذلك يفسد الإمتاع بها، ويخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له، ويذهب استنباطهم إياها واستصلاحه - أي الجمهور - لها)، وبهذا يصور الجاحظ طريقة إلقاء النادرة، وليس كتابتها فقط، فينصح الذي يقوم بدور الراوي أن يكون الكلام الذي ينقله على لسان شخصياته مطابقا للواقع، كما لو أن هذه النصيحة موجهة إلى مقدمي المحتوى في هذا العصر.
الجاحظ أدرك الشرطين اللذين يميزان هذا الفن: المتعة والتعليم أو (الإمتاع) والفائدة؛ حسب رأي الجاحظ، ولم يكن الجاحظ وهو أحد أسياد اللغة والبيان العربي يتحدث هنا كأديب؛ بل كفنان ومُعدّ ومقدم محتوى.
أخيرا، إن هذا الدرس الذي قدمه لنا الجاحظ بحدسه العبقري قبل ألف عام عن تقديم المحتوى؛ يصور ويصف بدقة حال معظم مقدمي المحتوى اليوم، أفرادا كانوا أو مؤسسات إعلامية أو جهات، والمحتوى المقصود هو الموثق والدقيق، الذي يستحق الطرح والتداول، ولعل فيه الجواب عن السؤال حول مدى الخسارة الفنية التي تصيب تأثير موادهم في واقعنا المعاصر فلا نشعر بها ولا يبقى لها أثر.
hq22222@