ريما رباح

الإعلام .. المسافة صفر!

الثلاثاء - 09 يناير 2024

Tue - 09 Jan 2024


من أين يمكننا أن ندرك حقيقة المشهد اليوم.. وأنى ذاك لعاقل؟!
التحيز الإعلامي واضح صارخ بشكل يصم كوكب الأرض بأسره، فهو لم يعد فقط سائدا في القنوات والصحف وكل المسارات الناطقة والمسموعة والمرئية بل امتد لما بعدها وعلى مدار خطوط خرائط العالم، فحتى المتفائل بإعلام المستقبل سيصدم بالنتيجة؛ لأن هذه العدوى وصلت هناك فقد أصابت (الذكاء الاصطناعي) بذاته.. كيف؟
من يطرح سؤالا الآن في تطبيقات الذكاء الاصطناعي عن حق إسرائيل في حرب غزة يحوز جوابا مسهبا مؤيدا وحسب السردية الإسرائيلية تماما، أما نظيره السائل عن حق المقاومة المشروع لفلسطين فإنه يتلقى ردا صادما مقتضبا مفاده أن الصراع في غزة معقد ومتغير بشكل سريع - وكما لو أن الروبوت مبرمج ومنحاز!
فالإجابة هنا ومن قلب الحدث حرفيا (إذا كنت تريد الحصول على معلومات محدثة.. فحاول استخدام بحث جوجل)!!
العالم الجديد يشهد أسئلة كبرى، مثلا هل سيتبنى أصحاب الأرض والمحتل خيار لعبة عض الأصابع والعنف المفتوح باعتباره الحل الاستراتيجي على المدى الطويل، أم أن استنزاف القوى سيضطر الطرفين لقبول العودة إلى الوضع السابق في آخرالمطاف، أم ستكون هناك هدنة طويلة الأمد بوساطة دولية حيث تحكم حماس قطاع غزة المدمر القائم على المساعدات مع منح إسرائيل امتيازا مضاعفا في حماية الأمن على طول حدودها.. أو سترجح كفة الحل القائل بإنشاء دولة فلسطينية بحدود القدس لعام 1967.. أم ستعود المبادرة العربية إلى الواجهة أو تبزغ للأفق مبادرة جديدة للسلام؟
الرأي العام العالمي يتبدل بشكل غير مسبوق لصالح فلسطين وأهلها، وأسطورة الجيش الذي لا يقهر تحطمت على أسوار صمود أهل الأرض؛ فالتاريخ المرئي ليس كالتاريخ المحكي، وليس من سمع كمن رأى، والصورة الواحدة بألف كتاب.

إن تصاعد وتيرة الحرب في غزة يجعل حظوظ الرئيس جو بايدن بإعادة انتخابه على المحك، حيث يرى المراقبون أن الانتخابات الأمريكية لعام 2024 ستكون واحدة من أكثر الانتخابات الرئاسية حدة واستقطابا.

فماذا عن رأي الجيل الجديد أحد الفئات الرئيسة في الناخبين؟ وفقا لمقال نشر الشهر الفائت على موقع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) يتزايد القلق بين الشباب بشأن سياسة بايدن، والأهم هنا نتائج استطلاع أجرته (صحيفة نيويورك تايمز وكلية سيينا الأمريكيتين) حول الموقف من إسرائيل وفلسطين في ديسمبر 2023، حيث تؤكد الأرقام أن الغالبية من الناخبين المسجلين (57%) لا يوافقون على أداء هذه الإدارة - إلا أن رفض الناخبين الشباب ممن تتراوح أعمارهم بين (18-29) عاما أكبر بكثير حيث (72%) منهم يرفضون عنف إسرائيل وسياسة بايدن وهذا يعكس زعزعة ثقة القاعدة الشعبية في الحزب الديموقراطي؛ فالشباب الأمريكي وبأغلبية ساحقة أصبح لديه موقف رافض لسياسة الإدارة الأمريكية في دعمها المطلق للكيان الصهيوني في الحرب على غزة.

إن التناقض الضخم بين سياسة العنف ومجازر التطهير العرقي والإبادة وبين القيم الإنسانية العالمية التي لطالما أعلاها الغرب في عيون مواطنيه - غدا أكبر من تحمل الفطرة السوية.. فالتوثيق الإعلامي فضح ازدواجية المعايير، حيث العالم كله يشاهد الفظائع الوحشية وقتل الأطفال والنساء والأبرياء وتدمير المدارس والمنظمات الإنسانية والمستشفيات التي يرتكبها الكيان الصهيوني بالصور الحية وعلى الهواء مباشرة، هذا الواقع الصادم يمثل تحديا قويا لصناع القرار في واشنطن حيث لم يكن هناك أدنى توقع بأن يكون لحرب غزة كل هذا التأثير السلبي على شعبية الإدارة الأمريكية.

وفي المقابل هناك موجة عالمية من التعاطف الإنساني نابعة من انبهار الغرب المادي بالأداء البطولي للمقاومة، فقد لوحظ إقبال الشباب على قراءة القرآن لاستنساخ سكينة الفلسطينيين النفسية التي تظللهم بالطمأنينة واليقين بنصر مؤزر في مواجهة كل ما يرزحون تحته من قصف وتجويع وتدمير وإبادة، وهذا التحول يبدأ كتعاطف إنساني ولا يتوقف إلا بإعتناق الإسلام أحيانا على الرغم من كل حملات التشويه التي شابت الدين الحنيف في العقود الأخيرة - وهي ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ البشري.

وعلى التوازي تظهر استطلاعات الرأي حالة استياء عارم في كل الشعوب العربية فهي ترى ضرورة تجميد جميع العلاقات وأي نوع من التفاهمات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية مع الكيان المحتل فورا، والأغلبية الساحقة تصنف هذه الحرب الغاشمة في غزة - ومهما كانت خسائر الأرواح ودرجة الدمار - بأنها (انتصار مبين) ليس فقط للفلسطينيين بل وللعرب والمسلمين.

باختصار توكيدي.. حرب غزة أعادت إحياء قضية فلسطين المعمرة 75 عاما في الوجدان الإنساني ووضعت الإعلام في بؤرة الاستقطاب؛ ففي ملعب الأحداث فريقان متطرفان أحدهما يدعي (تغيير قواعد اللعبة) والآخر يزعم أنها (نهاية اللعبة).. وأيا كان معه الحق فالثابت أن هناك إعادة تشكيل جذرية في ديناميكيات الصراع وفي مسار التاريخ برمته.. نعم ومن غير ريب.. (طوفان الأقصى.. ما قبله ليس كما بعده)!!
ولادة قيصرية.. الإعلام اليوم في مخاض ولادة متعسرة.. فمعيار النجاح هو مستوى التأثير على الرأي العام، وهذا المجال معقد ومتطور ومتسارع؛ لأنه يتطلب الكثير من المؤسسات الإعلامية للمزامنة مع قضايا الساعة المطروحة باستمرار وهو ممتد التأثير في كل حدب وصوب؛ فليس مما يخفى مثلا أن رسم الاستراتيجيات العسكرية يستقي بعض الأفكار من طروحات المحللين العسكريين، كما إن مجرد القدرة على الوصول إلى جمهور كبير لا يعني النجاح، فالأهم هو بلوغ المجتمع المستهدف وتغيير قناعاته ومواقفه من خلال جودة المحتوى الإعلامي ومصداقيته.

تشير الأدبيات إلى أن (الأخطاء المنهجية) كتأثير كرة الثلج.. فتأخر وسيلة الإعلام في موافاة (المشاهد) بجرعة كافية لإشباع فضوله حين حدوث أزمة عالمية مثلا - يؤدي غالبا إلى تسريع خسارتها حيث سيتوجه المتابع تلقائيا إلى أي وسيلة أخرى فتصبح تلك القناة المنافسة بغض النظر عن أيدولوجيتها - بمثابة القناة المفضلة عند الجمهور المستهدف.

(هل الحقيقة هي أم الإعلام.. أو أن الإعلام هو أبو الحقيقة)؟.. في ملعب الزمان.. من ينجب من؟!!
ولا تزال الحقيقة مستترة كامنة في محرابها في انتظار وصول المعجزة الكاشفة.. (الإعلام.. المسافة صفر)..!


RimaRabah@