فهد إبراهيم المقحم

التحول الرقمي ليس هدفا!

الاحد - 24 ديسمبر 2023

Sun - 24 Dec 2023

سررت وغيري ممن حضر ملتقى الحكومة الرقمية الأسبوع الماضي وأفئدتنا تطرب لسماع ما حققته الجهات الحكومية من إنجازات ونجاحات في مسيرتها للتحول الرقمي بهدف تعزيز مستوى جودة مخرجاتها وخدماتها؛ ولذا لا عجب أن تحقق مملكتنا الغالية تميزا عالميا بتقدمها في مؤشر نضج الحكومة الرقمية لعام 2022 الصادر عن مجموعة البنك الدولي إلى المرتبة الأولى إقليميا والثالثة عالميا!

ولأن رواد الملتقى هم من أبطال قصة هذا التحول، كنت حريصا على لقياهم والإنصات إلى تجاربهم الثرية والمتنوعة. كان حديثهم مفعما بالحيوية ومليئا بالاعتزاز والفخر، ولأن طموحهم عال وأنفسهم تواقة، لم تخل أحاديثهم من تسليط الضوء على بعض الصعوبات والتحديات التي أرى فيها فرصا للتحسين والمضي قدما نحو التميز والتفرد.

يذكر أحدهم أن كثرة المتطلبات من الجهات التنظيمية تثقل كاهل فريقه وإمكاناته المحدودة، في حين أن آخر سرد معاناة امتدت لأشهر حتى يجد معاملة له تاهت بين جهتين، وهذا ثالث يتمنى ألا يضطر إلى تكرار إدخال بياناته الشخصية للاستفادة من خدمة واحدة تشترك فيها جهات متفرقة، ورابع يشكو كثرة التطبيقات والمنصات، وخامس يتساءل متى نتوقف تماما عن استخدام الورق، أو مراكز الاتصال، أو الحاجة إلى زيارة المقرات للاستفادة من الخدمات؟

ولئن كان هذا العد تميزا، إذ كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه؛ إلا أن أنفسنا الطموحة يجب ألا تهدأ حتى نبلغ القمة، وأرواحنا الشغوفة يجب ألا تنضب حتى نحافظ على مكانتنا التي تليق بوطننا وتشبع تطلعاتنا.

ولعلي هنا أسهم ببعض المقترحات والتوصيات:
أولا: مراجعة المتطلبات التقنية المتعددة والمعايير التنظيمية المتفرقة لتوحيد المشترك منها، والتأكد من مواءمتها ومناسبتها لكافة الجهات باختلاف أحجامها ومجالات عملها؛ ترشيدا للجهود وتعزيزا لكفاءة الإنفاق.

ثانيا: التحول الرقمي ليس هدفا لذاته، بل هو ممكن لتحسين الأعمال وتجويد المخرجات والخدمات، ولذا يجب ألا تتحول مؤشراته إلى أهداف نسعى إلى تحقيقها، دون النظر إلى أثرها وربطها بما يحقق أهدافنا الاستراتيجية.

إن المنظمات التي تجعل من التحول الرقمي غاية لا وسيلة، قد تتعثر في تحولها أو تخطيء في قراراتها، ولربما لجأت إلى حلول هشة وناقصة؛ هروبا من اللوم والإخفاق، وهو ما أشار إليه الاقتصادي البريطاني جودهارت في قانونه «عندما يصبح المقياس هدفا، فإنه يتوقف عن كونه مقياسا جيدا».

ثالثا: يرى الدكتور ويليام ديمنج (Dr William Deming) بأن محور الجودة يكمن في تحقيق احتياجات وتطلعات المستفيدين، ويؤكد الدكتور أرماند فايجنباوم (Dr Armand V. Feigenbaum) أن مقياس الجودة يرتكز في تحقيق رضا المستفيدين، وهما من عمالقة الجودة؛ ومن هذا المنطلق أقترح إيجاد مقياس موحد، يدار مركزيا، ويضاف إلى كل خدمة من الخدمات الحكومية الرقمية؛ للمساهمة في قياس وتحسين تلك الخدمات.

رابعا: مراجعة المنصات والتطبيقات الحكومية، وتعزيز العمل المشترك بين الجهات من خلال تبني رحلة موحدة وتجربة شاملة للخدمات؛ لتحسين الأداء وتعزيز رضا المستفيدين. تشير الدراسات المحلية، وفقا لما ذكره مدير عام تجربة المستخدم وإدارة الجودة بهيئة الحكومة الرقمية، إلى أن أكثر من 48% من المستخدمين يجدون صعوبة في العثور على الخدمات الرقمية التي يحتاجونها، وأكثر من 49% يرون أن الخدمات الرقمية الحكومية طويلة أو معقدة، ونحو 71% من المواطنين يطالبون ببناء منصات وطنية موحدة.

خامسا: أهمية إشراك أصحاب المصلحة في تطوير الخدمات الرقمية لضمان فاعليتها وشموليتها، وضرورة اختبارها وإطلاقها تجريبيا قبل تعميمها للتأكد من نجاحها وتعظيم أثرها.

سادسا: تعزيز التواصل بين المعنيين في الجهات الحكومية من خلال عقد اللقاءات لتبادل الخبرات، وتنفيذ المشاريع المشتركة، وتفعيل نموذج إعارة الكفاءات الوطنية لنقل التجارب المتميزة بين الجهات.

لا أحد يشكك اليوم أن التحول الرقمي ضرورة ملحة لأي منظومة، إلا أنها رحلة مستمرة لمواكبة المتغيرات والاستفادة من أحدث التقنيات في تعظيم الأثر وتحسين الأعمال والمخرجات؛ ولذا تنفق الحكومات ملايين الدولارات سنويا في مساعي هذا التحول المستمر، ومن الحكمة أن تراعى الأولويات وتنتقى أفضل الخيارات، وأن تقرن الوسائل بأهدافها لتوضع الأمور في نصابها.

moqhim@