فهد إبراهيم المقحم

ياليتنا من تحفيزنا سالمين!

السبت - 25 نوفمبر 2023

Sat - 25 Nov 2023


يذكر أن أحد الشعراء حين كبرت سنه ووهن عظمه أراد الحج توبة إلى الله وتكفيرا لذنوبه، وبينما هو يطوف بالبيت أقبل إلى الحجر الأسود ليقبله، فرمقت عيناه فتاة أثار جمالها شعلة قلبه وأعمى بصيرته، فقبلها بدلا من أن يقبل ما نوى. وحين عاد إلى أهله سألوه عن الحج ونفحاته، فقال أبياته الشهيرة التي ذهبت مثلا:
يا ليتنا من حجنا سالمينا
كان الذنوب اللي علينا خفيفات
رحنا نبي نخفف ذنوبٍ علينا
وجينا وعلينا كثرها عشر مرات
وهذا هو حال كثير من المنظمات التي تدرك أن تحفيز العاملين عنصر أساس في نجاحها، فهم المعول عليهم -بعد توفيق الله- في تنفيذ مبادراتها وتحقيق مستهدفاتها، إذ يؤمن أكثر من 71% من الرؤساء التنفيذيين أن تحفيز الموظفين وتعزيز ارتباطهم الوظيفي سبب رئيس في نجاح منظماتهم، وفقا لدراسة نشرتها مجلة (Harvard Business Review).

ولذا تحرص تلك المنظمات على تنفيذ حزمة من البرامج التحفيزية التي توقد شغفهم وتعزز من ولائهم لاستبقائهم، مثل: تحسين بيئة العمل، وتعزيز الشفافية والتواصل المؤسسي، والترقيات، والمزايا المالية، والتدريب، وتقييم الأداء، والاحتفاء والتقدير؛ إلا أنها في الواقع لا تحسن تنفيذها، فتسيء إلى منسوبيها من حيث أرادت الإحسان إليهم، وتدخلهم في نفق مظلم من الإحباط والتناحر والتقهقر؛ لينتهي بهم المطاف إلى الجفاف أو الرحيل!
فعلى سبيل المثال، في نهاية كل عام تصاب الكثير من المنظمات بأجواء من التوتر، وكثرة القيل والقال، وشيء من الإحباط والاحتدام؛ إذ ترتكز الأنظار وتنهمك العقول في مجريات تقييم الأداء الوظيفي السنوي، وما يترتب عليه من مكافآت وترقيات؛ إلا أن 90% من الموظفين يؤمنون بأن نتائج تقييم أدائهم السنوي ليست مثمرة، مع ما تسببه من آلام موجعة، وفقا لتقارير صادرة من جمعية إدارة الموارد البشرية (SHRM).

يعد تقييم الأداء الوظيفي جزءا أساسيا من عمليات أي منظمة، وبدونه قد تضيع البوصلة؛ لكن نتائجه وأثره تعتمد على كيفية إجرائه، فإن كان يتسم بالموضوعية والشمولية والحيادية والشفافية، سيكون ممكنا للعاملين، ومحفزا للمضي قدما نحو آفاق جديدة من التميز والإبداع، وإن كان يشوبه المحاباة أو القصور أو العشوائية أو الغموض، فسيكون محبطا لشغفهم، وهادما لطموحاتهم، بل وسببا في تسربهم وانتقالهم إلى بيئات عمل أخرى؛ إذ أظهرت دراسات نشرها مكتب إحصاءات العمل الأمريكي (U.S. Bureau of Labor Statistics) أن 25% من الموظفين يستقيلون بسبب إجحاف التقييم وعدم الشعور بالامتنان والتقدير.

ومن الأمثلة كذلك، تحفيز الموظفين من خلال تطوير قدراتهم ومهاراتهم للقيام بواجباتهم وتجويد مخرجاتهم، فقد أشارت جمعية إدارة الموارد البشرية (SHRM) في تقريرها (2022 Workplace Learning & Development Trends) إلى أن تطوير الموظفين يسهم في أمرين رئيسين: 1- تحقيق أهداف المنظمة من خلال إكساب العاملين المهارات اللازمة سواء للقيام بمهامهم الحالية أو الجديدة (Upskilling or Reskilling). 2- جذب 83% من الكفاءات الجديدة، واستبقاء 86% من الكفاءات الحالية في المنظمة.

لكن حين تخفق المنظمات في تنفيذ البرامج التدريبية المناسبة، فتتحول إلى برامج سياحية، أو برامج ركيكة لتحقيق المستهدفات التدريبية، أو تمنح للموظفين عشوائيا أو محاباة دون معايير واضحة ودقيقة، أو تنفذ دون قياس للأثر العائد منها؛ فالنتيجة الحتمية أن لا تؤتي هذه البرامج ثمارها، بل وربما أثرت سلبا على رضا الموظفين ودافعيتهم للعطاء والبقاء؛ فقد أظهرت دراسة قامت بها (go2HR) أن 40% من الموظفين استقالوا من وظائفهم في السنة الأولى بسبب قلة أو ضعف جودة البرامج التدريبية.

تعمل بعض المنظمات بجد واجتهاد لتبني خطط استراتيجية وتنفيذية محكمة، وتسارع في اتخاذ القرارات الإدارية للمساهمة في تنفيذها وتحقيق مستهدفاتها، لكنها تخطئ في عدم إشراك قياداتها في اتخاذ قراراتها، وإحاطة موظفيها بحيثياتها؛ إذ تسهم الشفافية والمشاركة في صناعة الخطط والقرارات في تعزيز الدافعية، والعمل الدؤوب بشغف وإتقان لتحقيق المستهدفات، فقد وجدت أبحاث نشرتها مجلة (Forbes) أن 80% من الموظفين يؤكدون على أهمية معرفة حيثيات التوجهات والقرارات التي تتخذها منظماتهم، وأن 87% من الباحثين عن العمل يعتبرون الشفافية معيارا مهما وجاذبا للالتحاق بالوظائف الجديدة.

تسعى المنظمات إلى تقديم الحوافز المالية، كالرواتب والبدلات والعلاوات والترقيات، لاستقطاب أو استبقاء الكفاءات، لكنها ترتكب جرما حين تقدم تلك الحوافز دون منهجية واضحة وعادلة؛ فحينها يتفشى بين صفوف الموظفين الشعور بالتجاهل والظلم، مما يتسبب ذلك في انحدار مستوى أدائهم أو رحيلهم عن منظماتهم؛ إذ أظهرت دراسة اشتملت على نحو 200 ألف مدير وموظف قامت بها (O.C. Tanner)، وهي شركة عالمية متخصصة في تحفيز الموظفين، أن 79% من المستقيلين تركوا أعمالهم لشعورهم بعدم التقدير والامتنان عن أعمالهم وإنجازاتهم.

هذه الممارسات الخاطئة ومثيلاتها أوقعت الكثير من المنظمات في مأزق التصدي لضمور الأداء ومعالجة الكثير من المشكلات والتحديات، وقد يظن بعض القادة أن في ذلك شيء من المبالغة، لكن الدراسات الحديثة تنبئ عن وجود كارثة عالمية؛ إذ أظهرت دراسة نشرتها (Gallup) أن 70% من الموظفين يشعرون بفقدان الشغف والدافعية نحو أعمالهم، فضلا عن الإبداع والإتقان في أداء مهامهم.

إن أهم ما تملكه المنظمات هو كوادرها البشرية، فإن أحسنت في التعامل معها وتطويرها وتحقيق العدل والشفافية في تحفيزها وتقديرها، فستحقق -بإذن الله- رؤيتها وأهدافها؛ وإن قصرت في ذلك تجرعت ويلات الظلم والإخفاق!



moqhim@