أمي التي فقدت
الأربعاء - 15 نوفمبر 2023
Wed - 15 Nov 2023
في الأيام القليلة الفارطة غادرت دنيانا والدتي الغالية مودعة حياة طويلة وقصيرة في آن، كتب ابني الأكبر شيئا من مشاعره عن جدته لأبيه التي أحبها وأحبته بحق بعد أن ذرف تلك المشاعر دمعا ساخنا حد الحرقة (ماتت كما عاشت، على سفح صلد من القوة والحكمة والعفة والطهر، بالأمس انتهى مشهد الفصل الأخير من حكاية جدتي العظيمة التي نشأت وتربيت وكبرت وتعلمت في كنفها وأنا أنظر إليها كالطود العظيم، لم أجدها يوما في موضع ضعف عزيمة أو تردد أو خوف من شيء، طيلة حياتي معها، كانت ملكة تتبوأ عرشها الذي نصبته كما يروق لها فلا يصلح إلا لها فقط، لم تكن يوما تستدر عطف أحد ولم يظهر منها الحاجة لأحد قط، وهي الذائع صيتها بالقوة والحزم والصبر حتى جاوزت الرجال في قريتها يوم كانت السواعد هي أدوات الحياة وسطوتها فكانت المرأة العظيمة في نظري بكل تفاصيلها، عندما حضرها الموت بكامل مهابته وسطوته كنت أحادثها قبل أن توافيها المنية بلحظات معدودة فكانت رابطة الجأش ولم تهابه أو تخشاه، بل كانت مؤمنة موحدة وراضية بقضاء الله وقدره.
أكتب هذه الأحرف وأنا ملئ ومسكون بالحزن والألم والأسى على فراقها ومفارقة دعواتها ومن كنت أستلهم منها عزائمي وقوتي، أعتقد أنها لم تأخذ حقها ولن تعيد الأيام مثل تلك العظيمة الشامخة والعفيفة التي ماتت بذات الشموخ والقوة والقيم التي عاشت بها، اللهم أسكنها فسيح جناتك وأبدلها دارا خير من دارها، «إنا لله وإنا إليه راجعون»).
وبالنسبة لي فما أشد وطأة الفراق، وما أتعس من يعيشهُ وما أبشع سطوته على النفس، كنت أعتقد جازما بصعوبة فقد الأم وأنه عذابات تحل بمن يفقد أمه، لكنني أيقنت الآن أن هذا الفقد يحيل حياتك لآمال تبددها وتعصف بها الأحزان في صحراء الوجدان القاحلة فلا تحيط بها العقول ولا تبلغها الأوصاف ولا تطالها الحروف وأنها عبارة عن جراح جوفية غائرة لا يمكن للمواقف أن تحتويها ولا للسنين أن تدملها، وأن موت الأم موت بطئ مميت للأبناء مع فارق التوقيت.
لن يفارقني يوما وجه والدتي وهي على السرير الأبيض وقد ناهز عمرها التسعين، ولن أنس هاتين العينين اللتين نظرت إلي بهما عند مغادرتي غرفتها قبل وفاتها بدقائق وهي تذكرني بوعدي لها بالخروج سوية من المستشفى، ولن يغيب عني البرودة القاسية التي غطت ذاك الجسد، عندما أمسكت يدي وتشتكي برودة جسمها وحرارة يدي، كانت اللحظات الأخيرة قبل وفاتها هي المشهد الأصعب، عينان غائبتان وأنفاس تصعد متقطعة ونبضات تحبو ضعيفة، وجسد بدا واهنا لم أعهده يوما بهذا القدر، فقد كانت أمي تلك المرأة الصامدة القوية رغم ظروف الحياة ومشقاتها وضروب الألم ومعاناته والصعوبات التي واجهتها في كل مراحل حياتها، وكان صدى همساتها الأخيرة المنخفضة بذكر الله تعالى والشهادة بوحدانيته والاستغفار المستمر، يئن في صدري تأوهات وآلام يضاعفها أن أشاهد أمي الغالية وهي على هذا الحال، لأتذكر كل تلك المشاهد وأنا أزور قبرها قبل مغادرتي المنطقة.
فراق الأم في واقعه يتم أبدي فكأنك تشعر بأنك شجرة اقتلعت من جذورها، أقف بضعف ووهن يهددني أي ريح قد تعصف بي، وكم ستكون أيامي السعيدة ناقصة دون فرحتك من أجلي، فسعادة المستقبل بلا شك سيشوبها غصة وحزن دائمين؛ لأن الحياة باتت من اليوم ناقصة مثلومة وشعور اليتم والفقد يؤرقني وكأنني ما زلت طفلا صغيرا وسأفتقد أمنياتك الصادقة لي بالنجاح والتميز والسعادة، وعلينا أن نعي أن فراق الأم هو كسر للقلب وتشظ لا يجبر.
عند عودتي للمنزل وخلوه منك وجدته فارغا وباردا ومظلما، وأشجاره تبدو ذابلة بلا حياة دون يديك التي تسقيه ليثمر، فلم يعد لنا منك سوى ماضٍ نستذكره وذكريات نجترها بحلوها ومرها.
سلام من الله على عينيك النائمتين، والسلام على رائحتك الزكية المختبئة في جوف الأرض وجزاك الله خير ما يجزي به عباده الصالحين لقاء تضحياتك وتحملك ومعاناتك، وتعبك وتحملك، رحم الله وجه أحن إليه ولم أعد أراه، اللهم ارحم ووالدتي ووالدي وأمطر عليهما شآبيب الرحمة والغفران وأسكنهما الفردوس الأعلى من الجنان وارض عنها وأرضهما.
hass_qr@
أكتب هذه الأحرف وأنا ملئ ومسكون بالحزن والألم والأسى على فراقها ومفارقة دعواتها ومن كنت أستلهم منها عزائمي وقوتي، أعتقد أنها لم تأخذ حقها ولن تعيد الأيام مثل تلك العظيمة الشامخة والعفيفة التي ماتت بذات الشموخ والقوة والقيم التي عاشت بها، اللهم أسكنها فسيح جناتك وأبدلها دارا خير من دارها، «إنا لله وإنا إليه راجعون»).
وبالنسبة لي فما أشد وطأة الفراق، وما أتعس من يعيشهُ وما أبشع سطوته على النفس، كنت أعتقد جازما بصعوبة فقد الأم وأنه عذابات تحل بمن يفقد أمه، لكنني أيقنت الآن أن هذا الفقد يحيل حياتك لآمال تبددها وتعصف بها الأحزان في صحراء الوجدان القاحلة فلا تحيط بها العقول ولا تبلغها الأوصاف ولا تطالها الحروف وأنها عبارة عن جراح جوفية غائرة لا يمكن للمواقف أن تحتويها ولا للسنين أن تدملها، وأن موت الأم موت بطئ مميت للأبناء مع فارق التوقيت.
لن يفارقني يوما وجه والدتي وهي على السرير الأبيض وقد ناهز عمرها التسعين، ولن أنس هاتين العينين اللتين نظرت إلي بهما عند مغادرتي غرفتها قبل وفاتها بدقائق وهي تذكرني بوعدي لها بالخروج سوية من المستشفى، ولن يغيب عني البرودة القاسية التي غطت ذاك الجسد، عندما أمسكت يدي وتشتكي برودة جسمها وحرارة يدي، كانت اللحظات الأخيرة قبل وفاتها هي المشهد الأصعب، عينان غائبتان وأنفاس تصعد متقطعة ونبضات تحبو ضعيفة، وجسد بدا واهنا لم أعهده يوما بهذا القدر، فقد كانت أمي تلك المرأة الصامدة القوية رغم ظروف الحياة ومشقاتها وضروب الألم ومعاناته والصعوبات التي واجهتها في كل مراحل حياتها، وكان صدى همساتها الأخيرة المنخفضة بذكر الله تعالى والشهادة بوحدانيته والاستغفار المستمر، يئن في صدري تأوهات وآلام يضاعفها أن أشاهد أمي الغالية وهي على هذا الحال، لأتذكر كل تلك المشاهد وأنا أزور قبرها قبل مغادرتي المنطقة.
فراق الأم في واقعه يتم أبدي فكأنك تشعر بأنك شجرة اقتلعت من جذورها، أقف بضعف ووهن يهددني أي ريح قد تعصف بي، وكم ستكون أيامي السعيدة ناقصة دون فرحتك من أجلي، فسعادة المستقبل بلا شك سيشوبها غصة وحزن دائمين؛ لأن الحياة باتت من اليوم ناقصة مثلومة وشعور اليتم والفقد يؤرقني وكأنني ما زلت طفلا صغيرا وسأفتقد أمنياتك الصادقة لي بالنجاح والتميز والسعادة، وعلينا أن نعي أن فراق الأم هو كسر للقلب وتشظ لا يجبر.
عند عودتي للمنزل وخلوه منك وجدته فارغا وباردا ومظلما، وأشجاره تبدو ذابلة بلا حياة دون يديك التي تسقيه ليثمر، فلم يعد لنا منك سوى ماضٍ نستذكره وذكريات نجترها بحلوها ومرها.
سلام من الله على عينيك النائمتين، والسلام على رائحتك الزكية المختبئة في جوف الأرض وجزاك الله خير ما يجزي به عباده الصالحين لقاء تضحياتك وتحملك ومعاناتك، وتعبك وتحملك، رحم الله وجه أحن إليه ولم أعد أراه، اللهم ارحم ووالدتي ووالدي وأمطر عليهما شآبيب الرحمة والغفران وأسكنهما الفردوس الأعلى من الجنان وارض عنها وأرضهما.
hass_qr@