زيد الفضيل

حضرة المتهم أبي

السبت - 12 أغسطس 2023

Sat - 12 Aug 2023

في لحظة تأمل معمقة لواقع مشهدنا الثقافي المعاصر الذي أصبح عديد من المثقفين العضويين فيه قابعين على الهامش، من بعد كفاح مرير، وجهاد مستميت، أمام تعنت الصحوة ورموزها المتشددين خلال العقود السالفة.

تذكرت أحد أعمق المسلسلات الدرامية التي حظينا برؤيتها، وهو مسلسل «حضرة المتهم أبي»، من تأليف محمد جلال عبد القوي، وإخراج رباب حسين، وبطولة نور الشريف ومعالي زايد وزيزي البدراوي، وغيرهم من نجوم الشاشة الفضية في تلك الفترة.

وأصدقكم القول، إني لوهلة حمدت الله أن وعيي وجيلي قد تشكل في إطار صحي إيجابي، ساهم في صناعته نخبة من المفكرين الذين تتلمذنا على كتبهم، وقامات من الأدباء الذين استمتعنا بأدبهم الشعري والقصصي والروائي والنقدي أيضا، ونجوم من صناع السينما والدراما سواء كتابا مؤلفين أو مخرجين وممثلين، آثروا إلا أن يقدموا أفلاما ومسلسلات درامية تلفزيونية وإذاعية عميقة في مضمونها الثقافي والاجتماعي والسياسي أيضا، فكانت أحد مُشكِّلات الوعي على الصعيد المجتمعي العام.

في ذلك المسلسل العظيم، وضح الصراع بين الأجيال من خلال شخصية الأستاذ عبدالحميد دراز، مدرس اللغة العربية المؤمن بلغته وبحضارته العربية وقيمها العظيمة، والذي كافح من أجل تعليم أبنائه وتلاميذه قيما وأخلاقا أخذت في النسيان مع غشيان المادة، وبروز الطبقة الرأسمالية.

وللأسف، فلم تفده غيرته وإيمانه أمام سلطة المال وما يصنعه من نفوذ، حيث لم يتمكن من حماية ابنه الذي أراد أن يفتديه بنفسه، ووضع نفسه مكانه متهما أمام القانون والضمير الإنساني بأجمعه.

إنها دراما متكررة في كل وقت وحين، وصارت هي ديدن عصرنا للأسف الشديد، وكأني بكاتب المسلسل قد أراد أن يتنبأ بواقع كل جيل أمام الجيل الذي يليه، وهو ما أخشى أننا نعيشه اليوم ثقافيا، حيث يتجه سياقنا المعرفي إلى حالة القطيعة وليس الوصل، حالة الابتداء من الصفر وليس البناء من حيث وصل أبي ورفاقه، حالة الجهل المطبق بكل ما تم عمله في العقود السالفة، وكل ما أنجزه من سبقنا من الرواد وجاهدوا من أجل تحقيقه، بإمكاناتهم وتقنيتهم المحدودة في وقته، لكنهم - وبالرغم من ذلك - كانوا كبارا بهمتهم وإيمانهم بقيمة المعرفة التي ينتمون إليها على مختلف السياقات الثقافية.

أؤمن بأن الحضارة بناء تراكمي وليس قفزا مظليا، وأؤمن بتراتبية العمل الثقافي، إذ كيف يحصل أحدنا على درجة البكالوريوس دون أن ينهي مراحل التعليم العام، وهكذا شأن المتخصص في إدارة العمل الثقافي، كما هو الحال في شأن المتخصص في إدارة المستشفيات، والإدارة الصناعية، وغيرها من الإدارات المتخصصة، التي يجب أن يدرك المسؤول فيها جوانب العمل المنخرط فيه، ويعرف دقائقه العامة، ويدرك المبرزين في كل تخصص، وما يحتاجه كل تخصص ليتفادى أي إخفاق، ويحقق الريادة التي تجب، على أن كل ذلك يحتاج إضافة إلى المعرفة الذهنية، ممارسة المعرفة الإدراكية التي يكتسبها المسؤول بالتجربة واكتساب الخبرة من أكفاء سبقوه في المهنة، وهو ديدن كل الإدارات المهنية الناجحة التي تستهدف الريادة وليس إنهاء العمل.

أسوق كل ذلك بشيء من عدم الفهم لحالة ما يجري على الصعيد الثقافي والسياحي اللذين يتقاطعان مع المثقف المعرفي، باعتبار ما يرتكزان عليه من قيمة المحتوى وجودته ومتانة أصالته، وأقف عاجزا عن فهم سبب إقصائه وهو الخبير العارف بقيمة المحتوى الذي يعيش في كنفه، وكأن المثل العربي الذي ينص على أن «زامل الحي لا يطرب» قدر لا مناص منه.

على أن الأعجب حين يصبح ذلك المثقف المعرفي في موضع اتهام من قبل بعض الشباب (ذكورا وإناثا)، حين يصدح برأي يراه صحيحا، وينتقد حالة واقعة، ولا سيما من بعض من رأى في نفسه مثقفا معاصرا وهو لا يفرق بين الناقة والجمل، ولا يدرك تاريخ من سبقه، وجهد من تقدمه من رواد الثقافة والمعرفة في المملكة العربية السعودية، ووطننا العربي المعاصر، ناهيك عن رموز الحضارة العربية المسلمة خلال القرون السالفة. كم يحزنني وجود هؤلاء في المشهد؟ وكم أخشى أن يتسيدوا القرار في يوم من الأيام؟

وفي المقابل، أرجو أن نعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومن ذلك تلك المباني الشامخة التي بُنيت لتكون مكتبات عامة في كل مدننا السعودية، والتي حوت نفائس فريدة من كتب وطبعات أولى، بل وأوقف بعض العلماء والمثقفين مكتباتهم الخاصة بها، والسؤال: لماذا تلاشت تلك المكتبات ولم تتم إعادة تنظيمها؟ وأين ذهبت تلك الكتب الثمينة والفرائد النفسية؟

zash113@