عبدالحليم البراك

لماذا ابن رشد؟!

الاثنين - 03 يوليو 2023

Mon - 03 Jul 2023

الذي لا شك فيه أن هناك من يزعم أن القضايا الفكرية التي يتعرض لها ابن رشد في كتبه، أو في سجالاته أو حواراته مع أبناء عصره قد تجاوزها الفكر الحديث، وأن الحاجة لها تبدو ضعيفة أو أنها لا تتجاوز عداد الأفكار التاريخية لا أكثر، لكن المؤكد أن هناك نقطتين لم يتم تجاوزهما بعد في فكر ابن رشد.

الأولى: طريقة تعامل ابن رشد مع القضايا الفكرية شديدة التعقيد، إذ إن منهج ابن رشد في التعامل مع القضايا الفلسفية كانت متميزة عن معظم من سبقه من العلماء المسلمين الذين تعاملوا مع الإرث اليوناني، فقد كان فقيها وابن فقيه وحفيد الفقيه ابن رشد الجد، وهذه إشارة واضحة على أن الأسرة المنتمية للمذهب المالكي فقها، الأشعرية السنية عقيدة، يجعله يتناول قضاياه الفكرية عن قرب فيما بين منهجين مقربين ومحببين في العالم الإسلامي في قوتهما، وهو منهج إيماني قرآني قوي جدا، مع إحاطته وعلمه بكتب المعلم الأول أرسطو، وهذه الثنائية القوية، جعلت من حجة ابن رشد السنية مع حجته الفلسفية ذات قوة وإقناع، فهو يقدم الشريعة في قالبها السني المالكي، ويقدم الفلسفة في قالبها الأرسطي النقي تماما (ولنقل الأقرب إلى النقاء باعتباره الشارح الأكبر للمعلم الأول) كل هذا جعل مذهبه الفكري متماسكا وذا رسوخ، ولا شك أنه كان متأخرا عن الأئمة أصحاب الجدالات القوية (ابن سينا، ثم الفارابي ثم الغزالي )، ذلك قد أعطاه إحاطة تامة (تامة حرفيا وليست مجازيا) حول الفكر الذي قدمه الأولان، ثم ردود الثالث عليهما، فخطأ الأول والثاني في فهمهما لأرسطو، وخطأ الأخير في أنه لم يدرس المنطق الأرسطي من منبعه الأصلي، بل عن طريق فهمه للفلسفة من ابن سينا والفاربي.

ولما تجمع لابن رشد هاتين الميزتين الفقه والفكر الفلسفي، أنتج فكرا رشديا متماسكا وهو «التوفيق بين الشريعة والحكمة»، أو بعباراتنا الحالية، التوفيق بين العلم (الفلسفة) والدين، وإن كان ثمة مأخذ يؤخذ على ابن رشد هو أنه جعل من المنطق الأرسطي أصلا ويؤول النص فيما لم يتفق مع المنطق الأرسطي، فهذا ناتج (وبشكل طبيعي جدا) لانبهار ابن رشد بالمنطق الأرسطي، والذي كان مذهلا للغاية في ذلك الوقت، إذ إنه عاصم الإنسان من التفكير الخاطئ وفق المقدمات والقواعد الأرسطية. قبل أن يتعرض المنطق الأرسطي للتجاهل في

القرن الخامس عشر، ثم للنقد والتجاهل معا في ما بعده من القرون!

الثانية: كما هو معلوم في الفلسفة بالضرورة - أن القضايا الفلسفية ليست تراكمية بحيث تلغي الفكرة أختها التي سبقتها حتى لو تعرضت لانتقاد قوي بل وحتى لو تعرضت لاضطهاد أو إدانة، إذ إن كثيرا من القضايا الفلسفية تحيا بعد الموت، ويصبح أبطالها المدانون في زمن ما، هم أسياد عصر آخر! وتصبح الأفكار الفلسفية هي مذاهب متراصة بجوار بعضها البعض، متشابكة فيما بينها قد يضرب بعضها بعضا، لكن لا يلغي بعضها البعض، بل يتيح فرص الترميم والتعديل عليها حتى تتماسك الأفكار الفلسفية وتنشئ نسقا فلسفيا تكامليا، وهذا ما يقودنا إلى تقدير فكر ابن رشد في التوفيق بين الشريعة والحكمة، إذ إن هذا الإرث الرشدي الكبير، قد يقودنا – يوما ما – فيما لو عادت الجدلية في الصراع بين الدين والعلم، أو الدين والفلسفة، أو ظهور نسق جديد للتوفيق بين الأديان والعلوم.

في سيناريو مشابه لو تخيلناه الآن، فإننا نرى بوضوح طغيان العلم على المبادئ الأخلاقية، وأن قوى المال والرأسمالية تستغل الإنسان بشكل يندى له الجبين، مما يشكل عبئا على الإنسانية، فقد يعود الإنسان للدين كمحرك أخلاقي وهنا قد يبعد عن تهمة محاربة الأديان للعلوم مستعينا بفلسفة ابن رشد بالتوفيق بين الحكمة والشريعة، ولا أدل على ذلك عندما استخدم الرشديون اللاتين على مدار قرنين من الزمان الأفكار الرشدية في التوفيق بين المسيحية والأرسطية في ثنائية استمرت طويلا في القرون الوسطى.

Halemalbaarrak@