علي المطوع

قمة جدة.. الأمنيات والمتغيرات

الثلاثاء - 23 مايو 2023

Tue - 23 May 2023

ختمت أعمال القمة العربية الثانية والثلاثين في مدينة جدة، وسط أجواء جديدة من التطلعات والأمنيات بغد أفضل وأكمل للعرب، شعوبا وحكومات.

القمة كانت غير عادية في كثير من جوانبها، بدءا بعودة سوريا مرورا بحضور الرئيس الأوكراني، ووصولا إلى خطاب الأمير محمد بن سلمان الذي أكد فيه أن العرب لن يسمحوا بتحويل منطقتهم إلى ميادين صراعات.

الدبلوماسية السعودية في هذه القمة اختطت خطا جديدا في حضورها، يقوم على قراءة الوضع العالمي بتمعن، ثم تأتي بعد ذلك محاولة الانسجام والتكيف مع هذه الأوضاع، خلال تفاصيل العالم العربي ومشكلاته وإشكالاته الكثيرة التي لا تنتهي.

كثيرون فاجأتهم عودة سوريا، وتحديدا خلال جدة وقمتها العربية، وفي ذلك أبعاد سياسية عديدة، أولها أن سوريا تعتبر كالجرح الذي أسهم الغرب في تركه ينزف ولا يريد له أن يندمل، كون حسابات الغرب السياسية المستجدة مع تقادم الصراع ترى في الوضع القائم في سوريا فرصة لترسيخ الفوضى في العالم العربي، وربما نشرها في أقطار عديدة في أي مناسبة مأساوية قادمة.

فسوريا أصبحت ساحة لحروب بالوكالة بين الشرق والغرب، والضحية كان شعبها الأصيل الذي تعرض لأكبر مأساة عرفها التاريخ بعد الحربيين العالميتين.

إن الواقع السياسي اليوم ليؤكد أن الغرب يمر بحالة من الوهن، وأن التوازن الذي تحاول بعض دول الشرق الأوسط استحداثه، لهو مؤشر مهم على حالة الانكفاء التي يعيشها هذا الغرب عن الشرق الأوسط وقضاياه المتعثرة.

وبالتالي، ومن وجهة نظر سياسية صرفة، فإن عودة سوريا تعيد بعث التوازن في المنطقة نسبيا، والعودة بها إلى ما قبل الربيع العربي، الذي كان صناعة غربية مع بعض التوافقات الشرق أوسطية، والتي ما لبث أصحابها أن عادوا إلى واقعيتهم، نائين بأنفسهم عن هذه المواقف الخطيرة.

الموقف التركي من الأزمة السورية سيكون أكثر المواقف تعقيدا، وسيستغرق فترات زمنية طويلة لحلحلته، ثم حله بطريقة تضمن مصالح البلدين والمحيط الإقليمي بأكمله. فالأتراك يوجدون في الشمال السوري، وهذا الوجود تراه سوريا احتلالا ينبغي إزالته وإزالة آثاره قبل الدخول في اي تفاهمات قادمة.

في المقابل، تركيا تحتضن ملايين اللاجئين السوريين، وتخشى من بعض العناصر الخارجة على القانون، والتي تشكل خطرا على الداخل التركي، كما تقول تركيا، وكما تظهره بعض الأحداث والحوادث التي انطلقت من تلك الأماكن الشمالية لسوريا.

نقطة أخرى مهمة، وهي أن تركيا ومع أي تسوية قادمة ستخسر حزاما أمنيا كان يؤمن حدودها، خاصة أن داعش ما زالت شوكة تطعن في الخاصرة التركية، ومعها بعض الأقليات الكردية، والمتمثلة في قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تنشد حكما ذاتيا يتعارض مع تركيا الدولة والجغرافيا والتاريخ!.

هذا الإشكال هو أكثر المشكلات التي ستعترض العودة الطبيعية لسوريا، والانصهار في محيطها الإقليمي في ظل وجود عسكري لقوى من الشرق والغرب، ما زالت ترى في الساحة السورية ساحة مثلى لاستعراض العضلات، ولتصفية الحسابات، كأمريكا وروسيا ومعهما إيران الحليف التقليدي لسوريا.

نخلص من هذا وبنظرة سياسية شاملة، إلى أن عودة سوريا إلى وضعها الطبيعي يتعارض مع بعض المصالح الغربية والشرقية، وبقاؤها على هذا الوضع من الفوضى، هو فرصة مماثلة لبعض القوى التي ما زالت تمني نفسها باقتطاع أجزاء من الأراضي العربية السورية وضمها إليها، إضافة إلى بعض القوى والتكتلات التي ترى في هذه العودة ـ إن تمت ـ فهي بمثابة الموت السريري لمشروع الشرق الأوسط الجديد، والذي كانوا يمنون أنفسهم به، كونهم الوجه الجديد الذي لم يكن الغرب ليمانع في نفاذه إلى مواقع صنع القرار، وتنفذهم بعد ذلك لصنعه والاستئثار به.

أما حضور الرئيس الأوكراني، فقد كان توازنا آخر أرداته المملكة للقمة ولدولها ولمواقفها الذاتية تجاه الصراع الدامي الذي يجري في أوكرانيا. هذه الرسالة مهمة جدا، وتؤكد أن الدبلوماسية السعودية والخليجية ضمنا، مرنة وقادرة على التعاطي مع كل العناوين، والتماهي مع كل الخلافات، وجعلها مجرد اختلافات في الرؤى بين قوتين عظميين، تجمعها بهم المصالح وتفرقهم أيضا المصالح، مع ملاحظة أن السيادة هي المطلب الأساس للمملكة ودول الخليج، كونها دولة محورية ومؤثرة لها حضور مهم، قد يتغير هذا الحضور بتغير المصالح وما يستجد من أحوال.

بقي شيء أخير، وهو آخر ما تحتمله هذه المساحة، أن قمة جدة ما هي إلا صورة وخطوة في سياق النهج السعودي الأصيل الذي يصنع السلام ويريد الخير للأقطار كافة، وهذا النهج تعترضه بالتأكيد حسابات لدول شرقية وغربية وشرق أوسطية، كلها تنشد مصالحها وتهدف إلى تسيير أمورها، بمعنى أن الساحة ليست خالية، وأن الجميع يبحث عن ذاته قبل مصالحه، وهو ما يفضي إلى حدوث خطوات سياسية مفاجئة تقتضيها ظروف المرحلة ومصالحها، وهو ما يجعل تفسيرها معقدا وبعيدا جدا عن حقائقها وملابساتها، كون ما نشاهده ونعيشه هو النتائج فقط، أما الإرهاصات وما قبل الإرهاصات فتظل حكرا على صناع القرار الذين يعلمون ويعملون، وهذا هو الفرق بينهم وبين الآخرين، وأولهم كاتب هذه السطور.