خليل الشريف

صناعة التشريعات ما بين الاستدامة والكوارث

الاثنين - 15 مايو 2023

Mon - 15 May 2023

في عالم مليء بالتعقيدات مثل عالم اليوم، يصبح إعداد وصياغة التشريعات أكثر الأمور صعوبة في تنظيم حياة الناس، ولا شك أن جزءا كبيرا مما يحرك الناس، وينظم سلوكهم، ويرعى مصالحهم، ويراعي العدل والشفافية في تعاملاتهم، ويجعل حياتهم أكثر يسرا وأمنا وأكثر إمكانية للحصول على الفرص وتجنب العقوبات هي عمليات التشريع السليمة. ومن يصنع التشريعات هو في المحصلة يصنع حياة الناس بحسب المجال الذي هو بصدد التشريع من خلاله.

وعليه فإن علميات التشريع وسن القوانين تواجه صعوبات بالغة وتحديات كبيرة بيد أن الصفة التي يمكن أن يقال عنها القاعدة الذهبية للتشريعات الجيدة هي تلك التشريعات التي تعيش فترة زمنية أطول من غيرها والتي ترسم ملامح نظام يتكيف الناس معه بمرونة، ويخدم مصالحهم، ويحقق تطلعاتهم، ولا يفرز إشكالات كبيرة تجعل مسألة استمراريته أمرا مستحيلا، ولذلك نجد هناك تشريعات تمكنت أن تخدم المجتمعات والدول لمئات السنين بينما في المقابل رأينا تشريعات لم تصمد لمدة أشهر أو ربما سنوات معدودة وكانت نتائجها بطبيعة الحال كارثية.

في هذا الصدد نمر على نماذج من التشريعات والأنظمة التي أقحمت في حياة الناس في عدد من الدول دون دراسة وافية ودون النظر لأبعادها المترتبة أثناء التنفيذ ومنها:

المجاعة الكبرى في الصين:

في العام 1958م، قرر الزعيم الصيني «ماو» تحويل بلاده من دولة زراعية إلى صناعية، معلنا شعار «القفزة العظيمة إلى الأمام»، وأمر بتوظيف عدد هائل من الفلاحين في المصانع مما تسبب في قلة أعداد العاملين بالزراعة، رافق ذلك تشريع آخر وهو أن الحكومة الصينية أمرت باستهداف العصافير، وطيور الدوري؛ للقضاء عليها، بدعوى أنها تقف عقبة أمام النهضة، وتأكل الحبوب، ونتيجة لهذه الخطة؛ انتشرت الحشرات، واستولى الجراد على جميع الأراضي الزراعية؛ بعد أن اختفت طيور الدوري، التي كانت لا تأكل الحبوب فقط، بل أيضا كانت مصدر رعب للحشرات والجراد! ازدادت أسراب الجراد، وانهار إنتاج الحبوب، ولم تعد هناك مساحات خضراء تكفي ليأكل الناس منها، ناهيك أن كثيرا من الفلاحين انخرطوا في عمل المصانع والمناجم حتى تحول الأمر إلى مجاعة؛ راح ضحيتها 15 مليون شخص، بحسب التقديرات الصينية الرسمية، فيما ذهب أغلب التقديرات العالمية إلى نحو 45 مليون ضحية.

قصة أفاعي الهند:

ما حدث أيام الاحتلال البريطاني للهند، إذ أرادت الحكومة البريطانية تسريع عملية القضاء على الأفاعي المنتشرة في المدن الكبرى، وتخفيف حوادث اللدغ التي انتشرت بين السكان وكذلك الرعايا الإنجليز. ولهذا، رصدت الحكومة جائزة تمنح لكل من يأتي بثعبان ميت. لكن سرعان ما قام الأهالي بتربية الأفاعي والعمل على تكاثرها ثم قتلها للحصول على الجائزة! بعد أن تفطنت الحكومة لتصرف الأهالي، توقفت عن توزيع الجوائز، الأمر الذي جعل السكان يطلقون سراح الأفاعي التي كانوا يربونها، ليزداد الوضع سوءا. حيث تضاعفت أعداد الأفاعي أكثر من ذي قبل. وانطلقت في الشوارع والطرقات لتشكل كارثة أكبر من ذي قبل!

قصة تلوث الهواء في مكسيكو:

قامت حكومة مكسيكو بفرض قانون يمنع تنقل 20% من السيارات في العاصمة المكسيكية بسبب تلوث الهواء. القرار الجديد منع تجول السيارات على الطرقات بين يومي الاثنين والجمعة حسب رقم لوحة السيارة، على أمل التقليص من انبعاث الكربون في المدينة. لكن، يبدو أن هذا القرار البريء سبب زيادة الانبعاثات، حيث اشترى السكان سيارات ثانية للتنقل بها في اليوم الذي لا يستطيعون استعمال سياراتهم فيه. كما أن السيارة الثانية كانت في أغلب الأحيان سيارة مستعملة وقديمة الأمر الذي يجعلها سببا أكبر للتلوث.

بعد ثلاثة سنوات، أعلنت الأمم المتحدة أن مكسيكو هي أكثر المدن تلوثا على الكوكب. وكشفت عدة تقارير أن محاولة تقليل السيارات في الطرق سبب زيادة كبيرة في عدد السيارات وارتفاعا في مستويات الكربون إلى 13%.

الطاقة المتجددة في أيرلندا الشمالية:

عام 2012م، قامت أرلين فوستر (الوزيرة الأولى لأيرلندا الشمالية) بتبني برنامج لتشجيع الشركات على التوجه نحو اعتماد الطاقة المتجددة في التدفئة، لكن هذا البرنامج أصبح يكلف الحكومة أكثر من 490 مليون جنيه إسترليني، وهو رقم يتجاوز تكاليف مصادر الطاقة العادية بمراحل. وبعد عدد من التحقيقات الاستقصائية، اكتشفت الحكومة أن الشركات التي استفادت من هذا البرنامج تقوم بتدفئة مبان فارغة للحصول على الدعم! فقيمة الدعم أكبر بكثير من قيمة استئجار المباني وتدفئتها بالطاقة الخضراء.

قبول الطلاب في جامعة تكساس:

عام 1997م، أقر المجلس التشريعي لولاية تكساس قانونا يمكن 10% من أفضل طلاب المدارس الثانوية من الالتحاق بالجامعات العريقة في الولاية على غرار جامعات أوستن و A&M بهدف تحسين عملية اختيار الطلاب وإعطاء فرص أكبر للطلاب من المدارس الأقل حظا. هذا القانون جعل نسبة كبيرة من الطلاب ينتقلون من المدارس الثانوية عالية التحصيل إلى مدارس ثانوية ذات تحصيل ضعيف لضمان مقعد في أكبر الجامعات. الأمر الذي أثر سلبا في التعليم الثانوي وقضى على حظوظ الطلاب في المدارس الثانوية الأقل تحصيلا.

إنتاج الزجاج في الاتحاد السوفيتي:

لتحسين إجراء تحفيز مديرو معامل الزجاج، قام الاتحاد السوفيتي سابقا بوضع لائحة تقرر صرف الحوافز والمكافآت للمدراء حسب وزن الزجاج الذي ينتجه كل معمل. وبسبب هذا القرار، أصبح الزجاج الذي يتم إنتاجه في الاتحاد السوفيتي سميكا جدا، لدرجة تصعب الرؤية من خلاله. حيث وجه مدراء المعامل بزيادة سمك الزجاج المنتج ليزيد وزنه، ويحصلوا على مكافآت أعلى. لمواجهة هذا الخطأ الفادح، وجهت الإدارة السوفيتية بتوزيع الحوافز على المدراء حسب مساحة الزجاج المنتج، على أمل عودة الأمور إلى نصابها، لكن سرعان ما أصبحت معامل الزجاج تنتج زجاجا رقيقا وهشا للغاية، للحصول على أكبر مساحة ممكنة من نفس كمية المواد الأولية. وفي الحالتين لم يكن في القرارات الصادرة أي ضوابط لمواصفات الزجاج الذي تنتجه المعامل.

إن التجارب التشريعية الفاشلة لا يمكن حصرها، لكن في المقابل التشريعات الناجحة والتي تستمر في نشاطها التنظيمي فترة طويلة من الزمن هناك عوامل مهمة ومؤكدة كانت السبب وراء نجاحها ومن أبرزها:

- أنها تشريعات أخذت وقتها الكافي من الدراسة الوافية وأنها مرت بمجموعات من الخبراء والمتخصصين والقانونيين واللغويين الذين كانوا يتداولونها مرة بعد أخرى حتى تخرج بشكلها النهائي.

- لم تهمل آراء المستفيدين حولها ولا آراء المنفذين لها فربما يكون التشريع على المستوى النظري صحيح وسليم ومناسب ولكن البيئة التنفيذية تحتاج إلى العديد من الإصلاحات قبل اعتماد ذلك التشريع.

- خضعت للنقد المحكم قبل التنفيذ من لجان أخرى تفحصتها وتبينت أي نواقص أو خلل في بنودها.

- لم تطبق مباشرة على الفئة المستهدفة بالكامل وإنما تم تجربتها على عينة تجريبية لمدة قصيرة للتأكد من أي تحديات يمكن أن تظهر لمعالجتها قبل التطبيق الكلي والشامل.

- حكمت لغويا وبلاغيا بشكل متقن وهذا هو عمل الصائغ القانوني إذ عليه أن يفهم مقصد من يقترح التشريع ثم يصنع لذلك المقصد جسدا من اللغة نافخا فيه من روح القانون ومسبغا عليه من سمته ما يناسب موقعه بين ما جاوره من تشريعات مراعيا في ذلك كله الدقة والوضوح حتى لا تلتبس جملة أو مفردة فيختلف الفهم في تنفيذها من شخص إلى آخر.

ختاما، في تصوري يحتاج العمل على التشريعات بعدا علميا ومعرفيا عميقا وكذلك بعد نظر لما ستؤول له هذه التشريعات، ليس كل من هو على رأس الهرم في مؤسسة ما أو وزارة ما قادر على العمل التشريعي، حيث إن هناك قدرة خاصة لهذا العمل تتطلب جانبا معرفيا كبيرا في العمل التنظيمي وفي البيئة التي سينفذ بها التشريع وكذلك القدرة على التنبؤ كيف يمكن أن يستمر القانون أو التشريع في إصلاح المشكلات؟ وكذلك كيف يمكن أن يخترق ويصبح عبئا إضافيا للمشكلة بدلا من حلها، هناك تشريعات تنظم وتحفز العمل المستهدف وتخلق له بيئة داعمة ومشجعة، وهناك تشريعات في الحقيقة تتسبب في انطفاء أي نشاط ممكن، بل ربما قد تؤدي لنتائج كارثية وعكسية أكبر من المشكلة المراد حلها بالأساس.