زيد الفضيل

المروية العربية إرث ثقافي كبير

السبت - 04 مارس 2023

Sat - 04 Mar 2023

في كلمته الافتتاحية لأيام المروية العربية التي أطلقها الأسبوع الفائت مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، أشار الأمير تركي الفيصل إلى مركزية الجزيرة العربية في حركة البناء المعرفي للثقافة العربية بوجه عام، وأهمية أن يسلط الباحثون الضوء على ذلك في الوقت الراهن من بعد نسيان طويل، داعيا المتخصصين إلى تكثيف دراساتهم الإنسانية لبيان الدور المحوري لشبه الجزيرة العربية زمانا ومكانا وإنسانا في خريطة التطور الحضاري منذ ابتداء العصور التاريخية في الألف الثالث قبل الميلاد وصولا إلى اليوم.

أشير إلى أن مفهوم الحضارة قد ارتبط في ذهننا بالجوانب المادية فقط جراء ترجمتنا لمعناها وفقا للمصطلح الإنجليزي civilization والتي تم اشتقاقها من لفظة المدنية civil، التي ارتبطت بالتطور الملموس في مختلف الجوانب المادية، وهو ما يمكن ملاحظته حين النظر إلى الحضارة الأوروبية في العصور القديمة وصولا إلى العصر الحديث، تلك التي اهتمت بالعمران فأنتجت أضخم وأجمل القصور والقلاع، ولكن دون أي روح قيمية أو ذهن معرفي.

ثم وحين تلامس الإنسان الأوروبي عبر الأندلس ومملكة صقلية وحال احتلال الفرنجة لبيت المقدس، مع الحضارة العربية المسلمة التي كان لها الفضل في صهر مختلف الحضارات المشرقية بالحضارة اليونانية ومزجها في بوتقة واحدة، ثم إنتاجها في سياق فريد من نوعه مادة ومعنى، شكلا ومضمونا، بدأ المجتمع الأوروبي في تشرب مفاهيم قيمية ومعرفية ذات بعد فلسفي أضفى على حياتهم معنى آخر، وأسهم في ترقية نفوسهم وتهذيبها معرفيا بالشكل الذي أوصلهم إلى ما هم عليه اليوم من تطور ورقي.

في هذا السياق لفت نظري عمق البعد الفلسفي حول الأمر ذاته في حديثي القصير مع الأميرة مها بنت محمد الفيصل التي تمثل المروية العربية أحد أيقوناتها الفكرية، حيث أشارت في حديثها إلى قرب صدور كتابها «أمة على رسلها: تأملات من بلاد العرب»، والذي ناقشت فيه مصطلح «الحضارة» بتبصر لمعناه، وفهم لدوره كمنطلق لتقييم البلاد والعباد، مشيرة إلى أن «مفهوم الحضارة قد ابتدع في حقبة التنوير الغربي كمساعد لفهم العالم من منظور غربي تقدمي لاديني، بحيث أصبح للحضارة مفهومها الخاص المعاكس للمفاهيم الدينية، إذ كلما خفتَ نبراس الدين اشتعل وهج الحضارة وتعاظمت أهميتها لتصبح وفق هذا المفهوم المادي غاية تسعى إليها البشرية، ومعيارا تُصوب نحوه الآمال وفق التمثل الأوروبي للتمدن».

والواقع فإني على الصعيد المنهجي أستطيع تفهم منطلقها المعرفي، وأجدني كمتخصص في رصد التطور الحضاري متشوقا لقراءة منظومتها الفكرية كاملا، والتي يمكن أن تكون مرتكزا منهجيا لمنظومة أيام المروية العربية على الصعيد البحثي، لا سيما إذا آمنا بأن الذهن الغربي المادي قد اختطف مفهوم الحضارة وغير مجراه الفلسفي، وهو ما لم يكن في الحضارات المشرقية القديمة كالفارسية والهندية وحضارة بلاد الهلال الخصيب (العراق والشام) علاوة على الحضارة المصرية وغيرها، والتي مثل العرب الأوائل جزءا أصيلا فيها كلها من خلال موقعهم الجغرافي الذي شكل نقطة اتصال بين مختلف الحضارات، مما أضفى على الإنسان العربي سمة حضارية تمثلت في منظومة قيمه العالية، وذهنه المعرفي السليم، الذي جعل منه لبنة مناسبة لظهور آخر الأنبياء والرسل، ويؤكد ذلك قول نبينا الخاتم في الحديث الصحيح «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، والأخلاق النبيلة أعلى درجات التحضر والرقي، وهي التي سعى لبلوغها علماء عصر الأنوار والفلاسفة الغربيون بوجه عام.

على أن العرب الأوائل قد أبدعوا في عديد من المعارف الإنسانية قبل غيرهم، ودونا عن غيرهم، حيث أظهرت الاكتشافات الأثرية نبوغهم المبكر في علم الفلك، وبناءهم لمراصد دقيقة تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد، وكانوا خبراء في علم النجوم وأنوائها بشكل مذهل، بل إنهم قد تميزوا بمهارة إجادة علم القيافة دونا عن غيرهم، وهو لعمري علم يحتاج إلى دراسات متأنية لنعرف أسسه ومنطلقاته، وكذلك علم الريافة وهو معرفة استنباط الماء من الأرض، وغير ذلك من العلوم والمعارف التي تفرد فيها العرب من قبل.

أختم بالتأكيد على أهمية مشروع المروية العربية، وأؤمن بأنه سيكون للمشروع الأثر الكبير في التعرف على إرثنا الحضاري منذ ما قبل الإسلام وحتى اليوم، مع نفض الغبار عن كثير من المعلومات المغلوطة التي رسمت صورة نمطية عن ثقافتنا بشكل غير صحيح، وكان لها الأثر السلبي على وجداننا المعرفي، وأحد تلك السياقات المغلوطة مفهوم وأد العرب لبناتهم قبل الإسلام، التي فندها بمنهج علمي سليم الدكتور مرزوق بن تنباك، والذاكرة مليئة بمثيلها، وحتما فدور المروية العربية سيكون منصبا على تصحيح السياق، وكشف المخبوء الحقيقي للحضارة العربية.

zash113@