خليل الشريف

المنظمة المهزومة

الاحد - 08 يناير 2023

Sun - 08 Jan 2023

هناك سؤال فلسفي كبير لطالما كان محلا للجدل بين الفلاسفة عبر العصور: ما الذي يُعتمد عليه أكثر في ضبط سلوك المجتمعات.. هل هي الأخلاق والقيم أم القوانين والأنظمة؟ هذا السؤال بطبيعته شائك ومحير، فهو على المستوى النظري قد يقود إلى إجابة معينة، ولكنه على المستوى التطبيقي بالتأكيد سيقود إلى إجابة مغايرة.

والحقيقة أن كلا الأمرين مطلوب لضبط السلوك الاجتماعي ولكن السؤال: أي الكفتين لها التأثير الأقوى والأهم في ذلك؟

إن الأخلاق والقوانين تهدفان لشيء واحد.. وهو ضبط السلوك البشري وتنظيمه والرقي به. لكنهما يختلفان اختلافا جوهريا من حيث المصدر والانتماء؛ فالأخلاق هي دوافع إنسانية عامة وهي ثوابت معروفة ومتداولة في القاعدة العريضة من المجتمع من خلال الدين أو الأعراف أو الثقافة والتقاليد، أما الأنظمة والقوانين فهي صيغ مكتوبة تصدرها الجهات المختصة من خلال المؤسسات المدنية وفق مصالح اجتماعية وإنسانية واقتصادية وسياسية معينة. ونحن نجد أحيانا قوانين قد تسمح بسلوك غير أخلاقي، وقد نجد كذلك قوانين تجرم سلوكا أخلاقيا، وهذا يعود لطبيعة الدول والجهات والمنظمات التي تصدرها.

لكن كقاعدة عامة لا يمكن للقوانين والتشريعات وحدها صيانة المجتمعات والحفاظ على أمنها وتماسكها وسلامة أفرادها ومواردها؛ ففي النهاية من سيطبق هذه اللوائح والتشريعات ويقف على تنفيذها هم أفراد من المجتمع وما لم يتحلوا بالوعي الأخلاقي والقيمي فإنهم سيكونون أول من ينتهكها، كما أننا نرى تفاوتا كبيرا بين الدول في معدلات الجريمة والعنف، وهذا بطبيعة الحال لا يعود لنقص في التشريعات والقوانين أكثر مما هو تفاوت في السلوك القيمي والأخلاقي للمجتمعات من دولة لأخرى.

من هنا تتجه النظريات الحديثة في استراتيجيات التشريع وسن القوانين على أن الأنظمة والتشريعات لا بد وأن تستند دائما على مرجعية قيمية وأخلاقية، ومتى ابتعدت تلك القوانين والتشريعات عن هذا المفهوم، وأصبحت مجرد سلطة قانونية خالية من هذا المضمون؛ فإنها بالضرورة ستكون سببا للمزيد من المشكلات أكثر من كونها هدفا للحلول.

في عالم المنظمات والمؤسسات لا يختلف الحال كثيرا؛ فأي منظمة كانت صغيرة أو كبيرة هي بمثابة مجتمع صغير ينطبق عليه كثير مما ينطبق على المجتمع الكبير. إذا تحولت القوانين والتشريعات الإدارية إلى صيغ ولوائح لا يحركها أفراد دوافعهم الأساسية قيمية وأخلاقية وإلا فإن هذه المنظمات ستتحول مع الوقت إلى ما أسميه بالمنظمات المهزومة.

إن أبرز صفات المنظمة المهزومة هي أن أفرادها عبارة عن موظفين يتسلط على أذهانهم نمط من التفكير المحدود جدا، فهم لا يفكرون بعلاقة مهامهم وأعمالهم بالغايات الكبرى للمنظمة، إنهم يتحركون وفق دوافع محدودة وضيقة لا تتعدى التعاميم واللوائح التي رسمت لأقسامهم فحسب، فالأقسام الأخرى والوحدات المرتبطة بعملهم والهياكل الفرعية التي تتصل بهم ليست ضمن أهدافهم الوظيفية الحقيقية، بالنسبة لهم ما يقع من أخطاء في أماكن أخرى غير القسم الذي يعملون فيه أو غير المهمة التي مسؤولون عنها فهو أمر لا يعنيهم. ولك أن تتخيل الخراب الذي يحدثه اعتقاد مثل هذا في المنظمة.

ولعلنا نشاهد في كثير من الأحيان في أي شكل مؤسسي سواء كان طبيبا في مستشفى، أو معلما في مدرسة، أو مهندسا في مصنع أو موظف استقبال وهو يرى مشكلة حقيقية يتعرض لها شخص معني بهذه المنظمة وربما تكون مستويات هذه المشكلة عالية لدرجة أنها قد تؤثر على حياته أو مستقبله أو مستقبل أسرته بينما يجد الرد بكل برود هذا الأمر ليس من اختصاصي.. اذهب للقسم الآخر.. عليك أن توفر أولا المتطلبات اللازمة.. هذا لا يسمح به النظام.. لقد فات الأوان على أن نقدم لك شيئا.. وغيرها من العبارات التي لا تدل إلا على شيء واحد.. هذه المنظمة مهزومة وأفرادها مهزومون وغير قادرين على فهم كيف تعمل المؤسسات الناجحة ذات الفاعلية غير المحدودة، إنهم يتصورون أنهم بمجرد الاستجابة لحل المشكلات العارضة التي قد لا تكون من صميم مهامهم سوف يتوهون عن مهامهم الأساسية، وهذا ما أسميه هوس المهام الأساسية! ولكن الحقيقة تكمن في عكس ذلك تماما؛ فكلما توسعت في حل المشكلات العارضة التي ليست من مهامك سوف تتعمق في مهامك الأساسية وتتقنها لدرجات لا حدود لها.

تتملك المنظمة المهزومة ثقافة مروعة، وهي أن الموظف فيها يعمل فقط من أجل تجنب الأخطاء! هذا فحسب!! هذا أقصى تطلعاته ألا يقع في مخالفة إدارية أو نظامية! والحقيقة أنه ليست الغاية من أي وظيفة في أي مستوى من المستويات أن يتجنب الموظف الوقوع في الأخطاء، وليس الغاية من أي لائحة أو تعميم القضاء على وقوع الأخطاء أو التقصي المستمر على الأخطاء؛ فالأخطاء في عالم المنظمات أمر حتمي لا مناص منه بل هو أمر ضروري للتعلم والتطور.

إن الغاية الحقيقة لأي وظيفة هي بالضرورة غاية قيمية وأخلاقية، حتى وإن كانت المنظمة ربحية، فهي بالنهاية تقدم خدمة أو منتج في إطار قيمي يحقق تطلعات وتوقعات المستفيد. ومجددا ما يحصل في المنظمة المهزومة أن كل قسم أو وحدة إدارية تعمل في حدود ألا تكون أصابع الاتهام موجهة لها! لكن لا بأس فيما إذا كانت هذه الأصابع موجهة لقسم آخر. بمعنى أدق أن فشل أي قسم في أي مهمة لا يعني للقسم الآخر أي شيء ولا يعيره أي انتباه، بل إن الأمر يتعدى حدود ذلك إلى مرحلة من تصيد الأخطاء بين الأقسام ورمي التهم كالكرة التي تتقاذف من هنا إلى هناك! وفي هذه الحالة تصبح المنظمة مكونة من أقسام ووحدات إدارية أشبه بالجزر المنفصلة عن بعضها البعض لا تجمعها غاية عظمى، ولا توحدها رؤية مشتركة، ولا تتبنى عمل له معنى.

في المنظمة المهزومة لا أمل في التطوير بتاتا، متى ما استمرت هذه المحدودية في التفكير والعزلة الإدارية ومتى استمر السقف الأعلى للطموح المهني هو تجنب الأخطاء؛ فإن أحد أهم عناصر التطوير يستحيل توفره، التطوير يحتاج إلى روح جماعية تتملكها رؤية قيمية.. نحن نعمل جميعا من أجل هدف كبير وسام.. نود جميعا أن نحققه.. سنخطئ.. سنتعثر.. سنحاول ونتعلم كل يوم.. ومن ثم سنحصد النتائج جميعا.. لكننا طوال هذه الرحلة المهنية لن نرفع القوانين واللوائح في وجوه بعضنا البعض من أجل أن تفهم عملي وأفهم عملك؛ لأنه إذا لم يتحقق هذا الفهم والوعي إلا من خلال قوانين وتشريعات صماء فروح التعاون من المؤكد أنها قد ماتت سلفا!

وهنا نحتاج للمرور على تساؤل مهم؛ ما الغرض إذن من القوانين واللوائح والأنظمة؟ إنها في الحقيقة لم تكن ولا يمكن أن تكون غاية في ذاتها، علينا أن نتذكر دائما أنها وسيلة لغاية أكبر وأهم للمنظمة، وبالتالي من المهم أن يكون تركيزنا على تلك الغاية العظمى لا نحيد النظر عنها أبدا. ومتى تقوقع الموظف في خانة القوانين واللوائح أصبح موظف يعمل بلا معنى وبلا غاية وقيمة حقيقية.. إذن ما الحل؟ هل نلغي اللوائح والقوانين؟ بالتأكيد لا يدعو لذلك إلا جاهل!

إن المنظمة المتطورة والرائدة تعي جيدا كيف تصنع الموظف اللامحدود؛ لن تجد في المنظمة المتطورة موظف يرى الأخطاء التي لا تقع ضمن مسؤولياته القانونية وينظر له وكأنها شيء لا يعنيه، كما أنه حين يرى مثل تلك الأخطاء لن يتعامل معها بطريقة انتهازية ليظهر أن قسمه يعمل بشكل ممتاز بينما قسم آخر يغرد خارج السرب، إنه بكل مرونة وبساطة سيساعد أي زميل لحل هذا الخطأ، وسيفكرون معا بعقلية منفتحة ضمان عدد من الإجراءات حتى لا تتكرر هذه المشكلة، إنهم يتعلمون سويا بطريقة تفاعلية تجمعهم غاية واحدة بعيدا عن التحزبات القسمية أو الإدارية.

من هنا ظهر المفهوم الحديث لشكل من أشكال القيادة الذي يضع أصبعه على مثل هذا الجرح ويعالج مثل هذه الظاهرة الغريبة. هناك نموذج رائع للقيادة يعرف بالقيادة بالقيم، وهو يناسب القيادة الاستراتيجية على وجه الخصوص؛ باعتبار أن من يخلق الثقافات في المنظمات ويساعد على تبنيها هم القادة الاستراتيجيون، إذا تبنت منظمة مفهوم القيادة بالقيم فإنها ستسعى لجعل كل عمل يتضمن بعد قيمي وأخلاقي حتى لأبسط عمل في المنظمة، ولو كان ذلك الشخص الذي يقدم القهوة والشاي.

كما أن هذه القيادة القيمية ستحرص على أن تكون تشريعاتها ولوائحها تنطلق من بعد قيمي بذات الدرجة التي تنطلق بها التشريعات من البعد الاقتصادي، وعلينا أن نتذكر أن أي منظمة في أي مستوى كانت، وفي أي بيئة يمكن تصورها إنها لا شيء بدون موظفيها، جرب أن تفرغ أي منظمة من الموظفين فلن يبقى لك سوى المباني والأجهزة التي سيأكلها الصدأ، ولوائح وأنظمة لا يوجد أحد لتطبق عليه، وهذا يعني بالضرورة أن العمل في أساسه يقوم على الإنسان ومن أجل الإنسان، هذا ما تتبناه نظرية القيادة بالقيم، فهي ترسم غاية عظمى يعرف الجميع أنه مهما كان دورهم في تحقيق هذه الغاية بسيطا وجزئيا إلا أنه يؤثر تأثيرا بالغا ويلعب دورا جوهريا في صورة المنظمة وسلاسة عملياتها، كما أنها تجمع من الموظفين أنفسهم أهم القيم التي تحركهم وأهم الدوافع الأخلاقية التي يؤمنون بها. ومن ثم يتم الاتفاق على تلك القيم لتكون قيم حاكمة للمنظمة ترشدهم إذا ما اختلطت الآراء وتضاربت المصالح.. وهذا هو النموذج السليم الذي يبعد منظماتنا أن تكون منظمات مهزومة.