شروق المحمادي

كيف خلق علم النفس المرض لأتباعه؟

الخميس - 22 ديسمبر 2022

Thu - 22 Dec 2022

يعيش الإنسان الحداثي مجموعة من المشكلات والهموم التي يحسها داخله، ويعتقد الأخصائي أنها مشكلة نفسية صرفة.

والحقيقة أن هذه المشكلات والهموم أجزاء منها إن لم يكن كلها يعود إلى مشكلات البنى الاجتماعية، والضغوط الثقافية المحيطة بالفرد.

إلا أن تعصب الأخصائي النفسي لتخصصه لا يجعله يفرق ويميز بين الكائن النفسي والكائن الاجتماعي في الكائن الواحد، علاوة على عدمية النظرة الكلية لعلاقة الفرد بالمجتمع والدين والثقافة.

ثم لنأت على ذكر فرد القرن الواحد والعشرين الذي يبحث عن كل ما هو (فردي) (شخصي) (نفسي).

فهو يقرأ ويستمع للأطروحات السيكولوجية والشخصية بنهم، في اعتقاد وهمي منه: أن الحقيقة والقوة والفعل متأصلة في باطني الذي يجب أن أبحث عنه وأعيد صياغته وتنظيمه باستمرار ما يعرف بتطوير الذات.

انهماك الفرد المستمر بداخله من مشاعر وأفكار وصراعات وهموم أجج باعتقادي الأمراض داخله وهيجها كما يهيج تركز الملح الجرح ألما.

فغرق الشخص في ذاته بمحاولة ما يسمى: اكتشافها، وتطويرها، وتقديرها والإيمان بها، قد جعلت محور اهتمامه ومركز قضيته الحياتية الكبرى: الأنا.

فصارت في أناته موجات مولدة للسعادة وتحت خفاياها وحشا يقتل شيئا في داخل المراقب لداخله.

وهذا التمركز الذاتي خلق لنا أخيرا: الفرد الأناني ذا النزعة النرجسية. نرى ضروب هذه النرجسية في عرض الشخص نفسه عبر الشبكات الافتراضية التي عززت الفردانية بشكل مفرط، فالفرد يتحدث عن نفسه باستمرار، عن إنجازاته، يومياته.

ولا تلقى إليه دعوة للحديث عن نفسه إلا لباها، والندم الحقيقي في تفويت فرص النفس عن الحديث والكتابة عنها! ومن هنا يظهر تفسير لماذا صغار العمر في العشرين والثلاثين والأربعين يتحدثون عن تجاربهم بوصفها: مكتملة. وظهر التدوين الذاتي عبر المدونات والبودكاست والسير الذاتية المشحونة ذاتية: أذكر أنني، ونصيحتي لكم بعد ربع قرن (25 سنة) من العيش والصراع.. وخلاصة تجربتي بعد الأربعين:..

تذكرني هذه النرجسية بالطفل ذي الست سنوات لما يخبر والديه عن تجاربه: أنا يا ماما لما كنت صغيرا كنت...!

وقد رأينا في عصرنا الحالي ما لم نر له سابقة في كتب السير الذاتية: فقد كان الواحد يدون سيرته عند الستين أو السبعين عاما، أما اليوم فكتاب سيرة ذاتية لمراهقة ست عشرة سنة بعنوان «أنا..» يتصدر الكتب الأكثر مبيعا!

وظهرت مصطلحات مقبولة حالية - كما لم تقبل في عصر سوق النخاسة! - (تسويق الذات) أن تتعامل مع ذاتك كسلعة في سوق جماعية كبرى تتبارى مع الغير في بيعها وتلميع صورتها.

في صورة مهينة للإنسان الكلي غير المنتبه لها.

الواقع والحال أننا علينا أن نغير الفرد من اهتمامه بالنفس والذات إلى اهتمامه بكله الإنساني الشامل: فهو ليس أناته، وأناته الوحيدة لا يمكنها تحقيق كل شيء له - إن لم يكن مستحيلا- ولا يمكنها الانتصار في كل شيء، وليست أولوية في كل المواضع.

الكل الإنساني الشامل الذي أدعو إليه: إنسان محور تمركزه الله تعالى، يرى لثقافته ومجتمعه الاعتبار كما يرى نفسه. لا أنا باطنية متقوقعة على ذاتها بإفراط خلقت الأمراض ثم ذهبت تشكو الأعراض.

أما التحليل النفسي ففي جلسة واحدة يفرغ الفرد ما بداخله معترفا للقديس بخطاياه كلها، سائلا المغفرة من نفسه وأن تعفو عنه آثار الزلل، في صورة كاريكاتيرية مضحكة بعدها يشعر بسعادة غامرة وحرية وانطلاق ورضا وهمي متخيل، ثم ثم.. ثم ماذا؟

ثم تعود الانتكاسة من جديد. ليشعر الفرد بالعجز عن التصرف في واقعه وظروفه وحل مشكلاته تلك الأماني الواعدة لعلم النفس بوصفها حلالة لكل المشكلات لكل زمان ومكان. وباعتبار أن المشكلة في ذاتك والحل نابع منها. في وهم لا أدري كيف انطلى علينا طيلة تلك السنوات؟

فكيف يطبب الجرح نفسه؟ دون عوامل أخرى: الهواء، الشمس. والله قبل ذلك.

يحث القديس وفي حالتنا هذه الطبيب النفسي أتباعه على التعبير عن خطاياهم وأمراضهم النفسية فيما يظهر نفسه كاملا من أن أي سقم وعلل ومرض، يعلو منصتها القديس ويخبر أتباعه بقصص الأقوام السالفة: أذكر أن امرأة جاءتني، ومرة شكا لي مريض قلقا. ويتحدث عن ذاته المقدسة المتعالية الخالية من كل خطيئة سابقة.

ونتيجة حث «الباباوات» أتباعهم على الشفافية النفسية الجماهيرية أي: التحدث عن تجاربهم المرضية للإعلام بكل شجاعة، يمتثل الأتباع في طاعة مقززة ويتحدثون عن تجاربهم فيعرضهم للألم الأخير الذي لا يصطحبونه معهم إلى العيادة.

لقد خلق علم النفس لأتباعه الأنانية والنرجسية والتمحور المقلق حول الذات، والثرثرة النفسية التي لا تغير الثرثرة النفسية نفسها فضلا عن التصرف في الواقع الوجودي الفردي شيئا.

إن هذه الأوهام والأمراض التي خلقها علم النفس لأتباعه يجب أن تعالج؛ لأنه على ما يبدو لي فعلم النفس هو المريض.

@shrooqmi