عبدالله مشرف المالكي

قوى السعودية الناعمة في مواجهة التحديات غير التقليدية

الثلاثاء - 15 نوفمبر 2022

Tue - 15 Nov 2022

يدرك المتابع للتقلبات الاقتصادية والسياسية العالمية مدى حاجة الدول الكبرى إلى توازن قوى يحفظ مصالحها في ظل تضارب الأهداف، وتغير خرائط التحالفات بين عشية وأخرى.

وكانت المملكة العربية السعودية من أوائل الدول التي اهتمت بتعظيم قواها الناعمة جنبا إلى جنب مع القوى الصلبة، ففي الوقت الذي تعزز فيه من قدراتها الاقتصادية والعسكرية بشكل لافت، فإنها أولت اهتمامًا ملحوظا بالسياسة الناعمة التي تحقق أحيانا ما تعجز الوسائل الأخرى عن تحقيقه.

ميز أستاذ العلوم السياسية جوزيف ناي، المسؤول السابق في إدارة الرئيس الأمريكي بل كلينتون بين نوعين من أنواع القوى السياسية؛ وهما "القوة الصلبة" التي تجعل الآخرين يفعلون ما تريده منصاعين ومكرهين، كما تجبرهم على اتخاذ القرارات التي تتعارض مع تفضيلاتهم واستراتيجياتهم الأولية، بسبب الإكراهات، أو الإغراءات التي لا يمكن رفضها.

وهناك "القوة الناعمة" أي أن تجعل الآخرين يشاركوك نفس الاهتمام بالنتائج التي تسعى إليها، ومن ثمّ تعملون معا برغبة واحدة، وفي فريق واحد.

ويميل المفكرون السياسيون المعاصرون إلى تفضيل القوة الناعمة على القوة الصلبة، ليس فقط لأنها أعمق تأثيرا، ولكن لأنها أيضا تجنب الصراعات والحروب والعنف.

ورغم أن مفهوم "القوى الناعمة" ظهر –ربما– قبل ثلاثين سنة تقريبا، فإن المملكة العربية السعودية استخدمت قواها الناعمة قبل ذلك التاريخ.

فالمملكة حاضرة جغرافيًا بموقع مثاليّ كأكبر مساحة في شبه الجزيرة العربية، وبمركز استراتيجي بين حضارات الصين والهند والحبشة وساحل الخليج العربي والبحر الأحمر والعراق والشام، مما جعل لها سطوة تجارية، وتحكم في أهم الممرات الاقتصادية في العالم.

ومع ذلك، فقوى السعودية الناعمة لم تقف عند هذه المنحة الربانية، وإنما عمل أبناؤها على مدار تاريخها التليد على صناعة عناصر أخرى تلائم كلّ عصر، وتتماشى مع متطلبات كلّ مرحلة.

فاهتم الملوك المتتابعون على حكم المملكة العربية السعودية بالأماكن المقدسة، وأولوا عناية فائقة بالحجاج والمعتمرين، الذين يشار إليهم دائمًا بضيوف الرحمن، بما يحمله هذا التوصيف من مشاعر الكرم، والضيافة، وحسن المعاملة.

على الجانب السياسي لم تحظ دولة بتوازن في العلاقات الدولية كما حظت المملكة العربية السعودية.

فالسعودية تعدّ مركزا لأربع عوالم ذات ثقل وتأثير في المجريات العالمية؛ هي الشرق الأوسط، الدول العربية، الدول الإسلامية، الدول المنتجة للنفط.

يوفر هذا الموقع المحوري للمملكة قاعدة نفوذ قوية، وبخاصة وأن قادتها كانوا ماهرين في التوازنات، مع السعي النشط لبناء قوة ناعمة موازية.

وقد ظهر هذا الذكاء في إدارة نفوذ المملكة في المرونة والتدخل المستنير والتعددية في العلاقات الدولية، فالسعودية لا تستخدم القوة لفرض هيمنتها على الجهات الفاعلة الأخرى، وإنما تركز على بناء الشراكات والتعاون الإقليمي والدولي لتحقيق الأهداف الجماعية.

وقد أكسب إعلان المملكة العربية السعودية دعمها لأي شكل من أشكال التعاون الاقتصادي العربي والإسلامي والدولي، الاحترام والنفوذ في المحافل العالمية.

لا يمكن ونحن نتحدث عن القوى الناعمة للسعودية أن نغفل دور ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في تعزيز أدوات هذه القوة بمفهومها الحديث، فقد أدرك سمّوه أن الثقافة والفنون والتعليم والبحث العلمي والتكنولوجيا هي أيضًا أسلحة قد يفوق تأثيرها قوة الطائرات.

وقد أحدثت الفاعليات الثقافية والسياحية والفنية في البلاد ضجة كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، وكانت عامل جذب مختلف، ومصدرًا جديدا، للحضور الدولي.

وربما في اتجاه الدولة السعودية بعد رؤية 2030 إلى تحديث مصادر قواها الناعمة، استجابة إلى مقولة جوزيف ناي "يتعين على القادة اتخاذ خيارات حاسمة بشأن أنواع القوة التي يستخدمونها".

فالحروب الشاملة، والأسلحة المدّمرة لم تعد خيارا أوليا يضمن أن تحقق الدول أهدافها الاستراتيجية، وإنّما أصبح خيارا مكلفا، يحتاج التخلص من أضراره إلى سنوات من الإنفاق والترميم والعلاج.

ومن هنا فإن الاتجاه المعاصر في السياسة يميل إلى تعظيم القوى الناعمة المرتكزة على سمعة الدولة، وصورتها الذهنية لدى الشعوب، وهكذا قفزت مجالات مثل التقدم التقني، والثقافي، والرعاية الصحية، وعدم التمييز ضد المرأة والأقليات، كأدوات جديدة لصناعة النفوذ والتأثير والفاعلية.

أثبتت السعودية في السنوات الأخيرة ومن خلال برنامج التحول الوطني أنها دولة عصرية حديثة، قادرة على التأثير غير التقليدي، وأن النفط، والمكانة الشرفية كونها مهبط الوحي وأرض الرسالة، ليسا كل نقاط قوتها، وأن لدى المملكة من المرونة ما يجعلها تجري تغيرات متعددة الأبعاد، تضعها دائمًا في بؤرة التأثير الإقليمي والدولي.