محمد هادي أبوعامرية

سويعات الوداع

الاثنين - 10 أكتوبر 2022

Mon - 10 Oct 2022

ما اقصر هذه الحياة!!، بالأمس كنا في أحضان أمهاتنا واليوم نربي فلذات أكبادنا، وبين هذه وتلك قصص وعبر.

أذكر في طفولتي أنني قد سمعت ابنا يقول لأبيه بعدما أسدى له سيلا من النصائح: (أنت تغار من نجاحي) فرد عليه الأب: اعلم بني أن أي أب لا يحب ولا يتمنى أن يرى أحدا أفضل منه سوى ابنه. ظلّت تلك الكلمات عالقة في ذهني إلى أن رزقني الله الذرية؛ فعرفت معنى كلامه وبدأت أستذكر نصائح والدي -رحمه الله- وكيف كان يحرص على تنشئتي تنشئة صالحة ويبحر بي في بحور العلم والأدب، فكنت ولازلت فخورا بما تركه لنا من إرث أدبي وثقافي وعلمي.

وأسأل نفسي ماذا تركت أنا لأبنائي؟ إن كان مالا فهو زائل، وإن كانت قطعة أرض فسيبيعها ورثتي قبل دفني!

وأنا في متاهات الحياة قابلت صديقي الصدوق شوقي بعد ردح من الزمن وقد ملأ ذقنه الشيب وبدأت معارك الزمن بادية على وجهه.. أبى إلا أن نسمر ونحتسي الشاي بعد تناولنا وجبة العشاء وأخذنا نتذاكر أيام طفولتنا وكيف كان آباؤنا يحرصون على تربيتنا.. واتفقنا أن أصعب المشاكل التي قد يواجهها المرء في حياته هي المشاكل العائلية والعملية؛ فالعائلية حلها بيد الزوجين، أما العملية أعان الله من ابتلي بها.

وعند سؤالي عن حاله بعد ما كبرنا وأصبحنا آباء وكيف هي الحياة بعد وفاة والده؟ سكت برهة ثم أغمض عينيه وأخذ نفسا عميقا ثم قال "آآه يا ليتني أخذت بنصيحة والدي... بعد أن تخرجنا من الثانوية نصحني صديقي الحسود بألا أكمل تعليمي وأبحث عن فرصة عمل... لكي أختصر سنوات ضياع عبثية فأخذت بنصيحته وكنت أخفي قبولي في كل الجامعات التي أتقدم عليها فعرض علي مرارا والدي أن أكمل تعليمي على حسابه الخاص وكنت أرفض وأقول أريد أن أعمل لا فائدة من التعليم (عملا بنصيحة الحسود) فاستدرك والدي بأن معدلي ليس عائقا في قبولي! وإنما عدم رغبة مني فأصبح لا يكلمني... مرت الأيام والشهور وأنا أركض بحثا عن وظيفة دون جدوى والغريب أنني لم أدرك بأن التوفيق مقرون برضا الوالدين... أخبرت صديقي الحسود فأشار عليّ إن كان ولا بد فأدخل كلية كذا في تخصص معين ومن سوء حظي تجاوزت اختبار القبول ونشرت الأسماء في الصحف فاستدعاني والدي وكلمني بوجه غاضب ونبرة صوت لم أعهدها (إن لم تذهب وتكمل تعليمك لن تجلس عندي دقيقة)، خرجت من عنده وكنت أسأل كيف عرف والدي وأنا جعلت الأمر سرا ولم يكن تقديمي إلا للتسلية والتندر مثل باقي (الجامعات). لقد وضعتني حماقتي في تخصص مجاله محدود في العالم العربي وفوّت على نفسي فرصة دراسة العلوم التي أحب وعندما طرق بابي فرصة إكمال الدراسة العليا بعد تخرجي من الكلية تركتها واخترت الوظيفة لكي ألحق بركب أقراني بالزواج والاستقلال الوظيفي ويا ليتني لم أفعل.. لقد ابتليت ببيئة عمل اجتمعت في شخوصها صفات يمقتها الله ورسوله.. الحسد والكذب والغيبة والنميمة والخيلاء وما أن يأتي مسؤول جديد إلا ويحاولون استمالته، فهم السواد الأعظم.. فيعملون له (غسيل دماغ) ويبدؤون بنصائحهم المسمومة فإن كان عاقلا طيب القلب جعلوه حيرانا... ولا ضير فهذه فتنة من فتن آخر الزمان، وإن كان خبيثا سايرهم لكي يكسب ولاءهم فيظلم هذا ويفتك بهذاك ولا يأبه بما يفعل فحسبه الله.

وزاد قائلا: الأمر يحتاج لفراسة وفطنة وما أقلها في زمننا هذا ففراسة المؤمن لا تخطئ.. ولكنا في زمان أصبح الناس يعملون بآذانهم قبل عقولهم فيحكمون على هذا بقول فلان ويحجبون عن الحديث مع هذاك لكي يرضي علانا ويرى في نفسه الكمال!

قلت: ما هكذا كان العرب ولا المسلمون، أين هم عن فراسة علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- عندما أكْثَرَ رجلٌ الثَّناء على عليٍّ -رضي الله عنه- بلسان لا يوافقه القلب، فقال له: (أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك). وأين هم عن عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- عندما دخل عليه قوم من مَذْحِج فيهم الأشتر، فصعَّد عمر فيه النَّظر وصوَّبه، وقال: أيُّهم هذا؟ فقالوا: مالك ابن الحارث، فقال: ما له -قاتله الله- إنِّي لأرى للمسلمين منه يوما عصيبا.

قال: الفراسة والتوسم تحتاج لقلب صادق طاهر نقي لا يعرف المكر والخديعة والكذب ألم يكن أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- أعظم الأمة فراسة!!!

قال تعالى في محكم كتابه (إن في ذلك لآيات للمتوسمين)، أي فكر ورؤية وفراسة يعرفون بما أراد بذلك.

فقلت: أعرفك بفطنتك وذكائك ودهائك ألم تستطع التعايش معهم؟

قال: لي ما يقارب العشر سنين.. حاولت وسايرتهم ولكن فشلت فشلا ذريعا.

قلت: كيف؟

قال: اعتزلت ثرثرتهم فيما لا يخص العمل، فقالوا عني: متكبر ومريض نفسي.. فوضعت اللوم على نفسي وقررت أن أتبسم عند مقابلتهم وأحتسبها عند الله صدقة.. فقالوا: مغرور يضحك ويستهزئ بنا.. فاحترت في أمرهم أراني أحتقر صلاتي إلا صلاتهم وصيامهم إلى صيامي فقررت أن أجالسهم علي أن تقربت منهم أن أغير من فكرهم نحوي. فأول ما لفت انتباهي عند مجالستهم إعجابهم بأنفسهم وذكرهم أعمالهم الصالحة فتعجبت!

كيف لأمرئ أن يذكر عمله مع ربه فقلت ممكن للاقتداء والحث على فعل الخير. ولم أر أثرا للقرآن ولا لصلاتهم في تعاملاتهم من شيء.. كنت أنهاهم عن الغيبة والنميمة وأذكرهم بإثمها العظيم فكان لا يعجبهم وتتمعط وجوههم، فقررت أن أجالسهم وألتزم الصمت علّي أسلم من ألسنتهم السليطة.. فوجدت نفسي مثلهم تملكني الكبر وأغتاب في هذا وأرضى في هذاك فلم أر منهم سوى الإعجاب ولم أسمع منهم غير المديح والثناء وقالوا عني تغير أكيد لزوال الضغوط النفسية عنه.

ولكن سرعان ما رجعت إلى رشدي وتأملت حالي فسألت نفسي عن سبب تغيرها فجاوبتني بحديث النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء: كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا منتنة).

وفهمت معنى الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن رسول الله -صل الله عليه وسلم- "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَىْءٍ وَلاَ صَلاَتُكُمْ إِلَى صَلاَتِهِمْ بِشَىْءٍ وَلاَ صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَىْءٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لاَ تُجَاوِزُ صَلاَتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ".

إن الصلاة والقرآن مناهج تغييريه تؤثر على واقع المرء وعلى نمط حياته فإذا لم تؤثر فإنها لم تصل إلى القلب ولم تعبر أسوار العقل ولم تسم بها الروح ولم تصل إلى الفهم، وإن اختلاف النشأة فصل في الأمر فقررت أن أعتزل ثرثرة مجالسهم ولا آبه بما يقولون ويصنعون من مكائد ودسائس ووكلت أمري للواحد القهار.

وأردد دائما رد الإمام أحمد بن حنبل على الشافعي:

تحبّ الصالحين وأنت منهم *** رفيق القوم يلحق بالجماعة

وتكره من بضاعته المعاصي *** حماك الله من تلك البضاعة

فغالبت الدموع صديقي شوقي.. وقال رحم الله والدي وسكت فنظرت إليه فإذا به أغمض عينيه وماهي إلا ثوان ولم أسمع غير شخيره فأدركت أني أرهقته ويا ليتني لم أتعمق في الحديث معه.

الأكثر قراءة

جميلة عادل فته

رجال الأمن.. رجال