شاهر النهاري

العقل والنقل والهوة بينهما

الاثنين - 23 مايو 2022

Mon - 23 May 2022

المعطيات والمعارف التاريخية تختلف بتعاقب العصور، وعصرنا الحالي مرصود بالحرف والصورة المتحركة الناطقة، فلا يمكن التقول على من قال، ولا من فعل، ومهما تقدمت طرق التزوير والفبركة، يظل هنالك من يستطيع بالعلم تأكيد حدوث ذلك بالمكان والساعة المرصودة، فلا يمكن التقول أو التعديل والتحسين، ولا رفع مقام الكذب حتى ينسخ الحقيقة.

وهذا لم يكن متوفرا في العصور القديمة، فلو عدنا لأجدادنا ساكني الصحاري في القرون المنصرمة، لوجدنا استحالة تثبيت ما كان يقال ويحدث بينهم، نظرا لندرة المستكشفين، من لا يفارقون مخطوطاتهم، يدونون فيها كل صغيرة وكبيرة، وحتى لو وجدت بعض المخطوطات، فنحن ندرك صعوبة حفظها، وسط أجواء ملتهبة مغبرة، وتاريخ حروب وفوضى لا تبقي على مخطوطة صريحة، ما جعل القيل والقال، وادعاء الحفظ في الصدور تتصدر الطرق المثلى للحفظ، والنقل للمستقبل، وتلك واقعا أسوأ طرق تثبيت وبناء المعارف والحضارات، فنحن نعلم أن عدة أشخاص ينقلون لمسامع بعضهم جملة معينة، لا تصل آخرهم بنفس الترتيب، والبناء اللفظي، والوضوح، في المقصود.

وهذا ما جعل تراثنا القديم حكائي تراكمي، نادر المخطوطات المؤكدة الخالية من عمليات التزوير، وجعل اختلاف الروايات مغبة مهلكة، فكل كلمة صغيرة لها عشرات المعاني المتنافرة، وحسب رؤية رجال حاولوا تفسيرها، وهنالك تباين في قدرة تثبيت الشخوص والزمان والمكان، بشكل يستحيل معه الاتفاق على حقيقة مثبتة، وحتى أن تراث الشعر، المتميز بالحفظ واللحن والإيقاع والقافية، يُختلف عليه، فنجد روايات لذات القصيدة وقائلها ومكانها وزمانها، وأسباب صياغتها متعارضة، وكلمات تستبدل هنا، وأبيات تُدس هناك، وبما تحمله الركبان، حتى لا يكاد يهتدى لأصل القصيدة، ولا شاعرها الأصلي دون جدل يفيض بالتشكيك والزيادات والنفي، واختلاق القصص العجيبة المليئة بالوهم والخيال، واتهام جن وادي عبقر بالتدخلات.

بين العقل والنقل هوة سحيقة، فالعقل حينما يكتشف نظرية، أو عملية حسابية، أو تجربة علمية، يتم تثبيتها في ساعتها، ويمكن إثبات نفس نتائجها مع كل تكرار لها، بينما يظل النقل يختلف، لأنه ظني الدلالة، لا يعطي نفس النهايات، كما أن مخطوطاتنا القديمة إن وجدت، لا يتم دراسة أعمارها الكربونية بحيادية علمية، بل ربما تدفع بعض الجهات الحالية المغرضة الثروات ثمنا لشراء رأي أكاديمي شاذ يؤكد ما يراد له أن يكون.

شعوب عالمية كثيرة، كانت تائهة بين العقل والنقل، ولكنها استطاعت تغليب المنطق، فأحسنت ووثقت وأتقنت وسابقت أقرانها للعلوم، وأبدعت في المخترعات الحديثة والتقنية، بينما بقيت دولنا الإسلامية، تبارك تراكم الوهم بتفضيل النقل على العلم، حتى لا تبلغ أجيالها حقيقة دون وهم ومراوغة، خصوصا وأن العواطف الجياشة والمسلمات تظل تحكم وتتحكم بالمنطق، فتختلف كل دراسة عما سبقها، وهذا ما زاد البلبلة، وأخرج الأجيال الجديدة من مفسري القرآن ومنقيي السنة، وممن يدّعون بأن معاني الكلمات قد غابت عن مدارك معاصريها، ولم يفهمها قبلهم أحد، ما جعل حالنا شتاتا عقليا، وحيرة ظنون، وخلافات عنيفة على كل أمر يثار بيننا، كون المشارب والروايات تختلف، وسط مجتمعات ترديد ترفض العلوم، وتقدس الشخوص ومقولاتهم، وبما لم تثبت حقيقته، فنظل ندور في هوة الدوامات، ونتحارب بيننا بسيوف المقولات، والعالم العقلاني، يختبر المعارف ويبلغ الكواكب.

shaheralnahari@