شاهر النهاري

مزهرية شكلت وجدان العرب

الاثنين - 21 مارس 2022

Mon - 21 Mar 2022

زارت فيروز والرحابنة مدينة القدس، في احتفالية تراتيل بمناسبة زيارة البابا بولس السادس للمدينة المقدسة، التي كانت وقتئذ تحت الحكم الأردني، وأثناء تجوالها بالشوارع العتيقة، أحاطت بها مجموعات من الفلسطينيين، معبرين لها عن حسراتهم وانكسارهم، ومعاناتهم بعد النكبة، وبين المدامع أهدتها إحدى السيدات مزهرية، فتأثرت وبكت، وحاولت رد الهدية، بأغنيتها 1964م:

«مريت بالشوارع، شوارع القدس العتيقة

قدام الدكاكين، ال بقيت من فلسطين

حكينا سوى الخبرية، وعطيوني مزهرية

قالوا لي هيدي هدية، من الناس الناطرين

ومشيت بالشوارع، شوارع القدس العتيقة

أوقف عباب أبواب، صارت وصرنا صحاب

وعينيهن الحزينة، من طاقة المدينة

تأخذني وتوديني، بغربة العذاب

كان في أرض، وكان في إيدين

عم بتعمر تحت الشمس وتحت الريح

وصار فيه بيوت، وصار فيه شبابيك

عم بتزهر، صار في ولاد، وبإيديهن في كتاب

وبليل كله ليل، سال الحقد بفية البيوت

والإيدين السوداء، خلعت البواب وصارت، البيوت بلا صحاب

بينن وبين بيوتن، فاصل الشوك والنار، والإيدين السوداء

عم صرخ بالشوارع، شوارع القدس العتيقة

خل الغنية تصير، عواصف وهدير

يا صوتي ضلك طاير زوبع بهالضماير

خبرهن عللي صاير بلكي بيوعى الضمير»ولم يطل الوقت بصرخات فيروز، حتى عصفت وزوبعت بشوارع العالم العربي بحسراتها، وزلزلته بأوجاع الضمير، وشكلته ببكائيات مريرة حملت كل عربي وعربية جميل المزهرية، ووجهت أفكارهم ويقينهم نحو رد الهدية.

براعم الشباب العربي، وقفوا كشافة فدائيين في مدارسهم يتدربون وينشدون، ويحلمون بعواصف وهدير، ترفض تعاسة المصير، الذي يعيشه إخوتهم الفلسطينيون، حتى اقتسموا معهم ريال فسحاتهم.

جيوش عربية تربت على النضال وطلب الثأر، من جيش محتل مدعوم عالميا، أبدع في نشر الظلم، والقمع والقهر، ليس لأهل فلسطين فقط، ولكن لكل ضمير عربي، تجرع كسرة الخاطر، وعاشر حتى في أزهي أيام سعادته الدموع، وترقب أوان النصر، الذي لم يكن يتحقق، مع هزائم ونكسات وخيانات ومشردين وملاجئ، وخلافات عربية، وشطط أوضاع السلطة، وحماس غزة.

المزهرية أنتجت في القرن المنصرم أجيالا عربية من الحيرة والتشرذم، والشعور بالعجز والدونية، والتمثل بالأغنية، التي تدمع أعينهم، وتزيد حنقهم على العالم، وتهيج مطالبهم الدولية المكررة، وتزكي أي عمل تحرري بينهم، وأي انتفاضة ولو بحجر في وجه المحتل، وتأكيد مقاطعته تجاريا، ودبلوماسيا، وثقافيا ورياضيا، وتحريم أراضيهم على أقدامه المحتلة، وعدم التطبيع معه شعبيا ومهما كتبت وخانت المعاهدات.

عرب شارع القرن المنصرم ظلوا منكسرين، يتشربون معاني القهر في الأغنية، وكثير من الساسة تقمصوا أدوارا للبطولات، والمفكرين نظروا، والأدباء حاولوا مجاراة القصيدة، أو معارضتها، مذعنين لثقافة الهزيمة، ومكرسين بكائيات الشكوى، والإحباط والشعور بالنقص، والعجز عن العودة.

الأناشيد السياسية كانت تتوالد كثيرة بمختلف أغراضها، ولكنها سرعان ما تموت، بينما تستمر أغنية المزهرية سوطا يدمي أي هجعة للضمير في صميم كينونة الوجدان العربي المنهزم، ما عظم الشقوق، وأسهم في تنافس وكراهية الشعوب العربية لبعضها، بدعوى رد واجب المزهرية، أو نكرانها، واختلفوا فيما بينهم نحو صور اليقين والتضحية والفداء، مع أن كثيرا من أهل الشوارع العتيقة غادروها، واتخذوا المزهرية تجارتهم، في مختلف حواضر العالم.

ويأتي قرننا الحالي، والذي يبدو فيه أن الأجيال العربية قد يئست واستسلمت وباعت المزهرية، واشترت بثمنها مراهم للسلوى، وجبائر لكسور خواطرها، ورفضت أن يكون لها نفس مصير كآبة وإحباط أسلافهم في القرن المنصرم.