وحيد الغامدي

معايير الثقافة.. بين الأجداد والأحفاد!

الخميس - 11 أغسطس 2016

Thu - 11 Aug 2016

يكثر حديث الناس أحيانا عن المقارنات الأخلاقية بين زمنين متناقضين، بعضهم بلغة التحسر وإظهار الخسارة القيمية في منظومة الأخلاق، وبعضهم بلغة المدح لمخرجات تلك الأخلاق الجديدة ولهجة الانتصار لقيم حديثة على أخرى قديمة. بل وفي مختلف السياقات المتناقضة، مثل سياق اقتحام أخلاقيات وأفكار فترة الصحوة وقيمها، وكذلك سياق أخلاقيات وأفكار ورؤى ما بعد مرحلة أحداث سبتمبر وما حصل من انقلاب فكري تسبب في زلزلة قيم وأفكار عقود من الزمن.



كل تلك التحركات الفكرية يحكمها قانون اجتماعي وتاريخي واحد وهو: حتمية حركة الانزياح الثقافي والفكري نحو متغيرات جديدة بحلول جيل جديد أو مرحلة جديدة أو متغير سياسي أو اجتماعي أو ديني مرحلي كبير. ما أنا بصدده هو القول بأنه من الواجب عدم تقييم أفكار أو رؤى أو تصورات أي مرحلة زمنية، من خلال معايير الأفكار والرؤى والتصورات في مرحلة زمنية أخرى، بمعنى أنه من الخطأ أن يأتي أحدهم ويقدم رؤية نقدية على مرحلة سابقة من الزمن منطلقا من محدداته المكتسبة في مرحلته الزمنية التي يعيشها.



وعليه.. فلا يجوز أن يأتي أحدهم ويقول: إن الصحوة مثلا قد ساهمت في زيادة الأخلاق عند الناس؛ لأنها جاءت بأفكار تمنع من اختلاط الجنسين في أماكن العمل كالمزارع والمراعي والأسواق، وبالتالي فقد ساهمت في حماية الفضيلة وحققت (صحوة) دينية وأخلاقية في قلوب الناس. في العادة تنطلق مثل هذه التصورات النقدية لفترة زمنية سابقة متجردة من الفهم التاريخي لظروف تلك الفترة التي تتناولها، وتداعياتها، وثقافتها الخاصة التي كانت تحكم تصوراتها، فتأتي تلك الرؤى النقدية الجديدة متمترسة بمخرجات فترة زمنية لاحقة؛ لتحاكم فترة زمنية سابقة، وهذا غير منهجي، وغير علمي، ويخفي الكثير من الحقائق، ويمارس في نفس الوقت تزييفا للوعي.



ظلت مرحلة الصحوة فترة من الزمن مزهوة بمكتسباتها الاجتماعية التي تسنت لها في تشكيل وبناء تصورات العلاقة بين الجنسين مثلا، وما تحقق لها من ترسيخ لشكل العلاقة بطريقة تختلف كليا عن تصورات الآباء والأجداد عن طبيعة وفطرية تلك العلاقة. هذا الانقلاب في التصورات نظر إليه البعض أنه تغيير نحو الصواب، وأن المرحلة السابقة كانت تغرق في الخطأ، وهذا النظرة تتغافل عن أمور عدة:



* أولا: إن المرحلة أساسا لم تتغير إلا بالعامل الاقتصادي المتزامن وهو عامل الطفرة الذي أحدث الانقلاب الشامل في حياة الناس بشكل أكبر من أي استجابة أخرى يمكن أن تعزى لمجهودات وعظية وتوعوية. فحصل التراجع في قيم العمل أساسا، وتغيرت النظرة لفكرة الكدح والكفاح فحصل انسحاب المرأة من الحياة العامة طبيعيا؛ لعدم حاجة الأسرة لها في مواقع العمل في المزارع، والمراعي، والأسواق نظرا لتغير منظومة الدخل المادي للأسرة، وتغير مفاهيم العمل بالكلية مع تغير ظروف الحياة زمن الطفرة.



* ثانيا: إن أي فترة زمنية كتلك الفترة لم يحصل فيها التدوين التاريخي فإن علينا العودة إلى شهادات شهود العصر الذين عاشوا تلك المرحلة، كمصدر آخر من مصادر المعلومة والتوثيق. ويستحيل أن يتفق كل من عاش في تلك المرحلة ويكذبوا جميعا ذلك الكذب الجماعي الذي نسمعه وبالصوت الواحد حينما يقولون وهم يسترجعون ذكرياتهم بحسرة: (إن نياتهم كانت طيبة)!



تلك المقولة، مقولة (النيات الطيبة) التي يكررها كبار السن، إنما هي صورة توضيحية للاختلاف في معايير التقييم الأخلاقي على الأفكار والتصورات، وهذا ما أقصده تحديدا، حيث إن مخرجات تصورات مرحلة الصحوة لا تدرك في كثير من الأحيان تلك التصورات التي كانت تحكم الفترة السابقة، وتشكل نمطية النظرة للأمور بشكل يختلف جذريا.

من هنا يجب أن تزال التناقضات التي أحدثتها المرحلة الراهنة، ونحن نشاهد عودة فعلية لقيم العمل، ومنها عمل المرأة، بعودة العامل الاقتصادي لفترة ما قبل ثنائية (الطفرة / الصحوة)، وبعد انكشاف المرحلة، وعودة شرائح واسعة من الناس لقيم العمل، برغم ثقل الإرث الفكري التراكمي الذي ساهم في تزييف التصورات لطبيعة الأشياء وأهمها تشويه الصورة الكفاحية الشريفة لقيمة العمل والإنتاج.



أخيرا الحديث ليس عن عمل المرأة بقدر ما هو تأمل لوقائع الخلل الأولي الذي أنتج لدينا كل هذه المشكلات، ومنها مشكلات عمل المرأة، والانفصام الحاصل عند الفرد الواحد بين حاجياته أو تطلعاته، وبين محددات (دينية – اجتماعية – ثقافية) تم ترسيخها خلال حقبة ماضية. كل ذلك أنتج ما يشبه الصراع الذي يمكن تفسيره أنه نتيجة خطأ أولي حصل في عملية استنبات تلك الأفكار والتصورات غير الصحيحة والتي بدورها أنتجت لدينا كل هذه المشكلات وكل هذا الصراع والجدل الساذج حول أشياء بدهية.



[email protected]