منى عبدالفتاح

درويش.. عصفور بجناح الشعر

الأربعاء - 10 أغسطس 2016

Wed - 10 Aug 2016

في ذكرى رحيله الثامنة، يعمّق «محمود درويش» بكاءنا المزمن، فوحدها دموعنا المنسكبة على نهايات «الموعد الأول» و»الجرح القديم»، و»وعود من العاصفة» تبتكر بدايات أخرى لمآسينا، بوابات قصائد كلما دخلها العابرون أينعت وزهت، ليمضي وهو يحمل وصايا أمه ورائحة قهوتها كما ترانيم الحياة الآخرة.



أفجع ما يمكن اكتشافه هو أنّ للكتابة لونا معتما، فهي يمكنها أيضاً أن تكتسي السواد، بإمكانها أن تتحول من حروف تُرتَقى إلى محاولة مستميتة لتجميع شتاتها وهي تتربص بالأفكار المتسارعة للحاق بأول السطر في تعزية للنفس أولاً، ثم التعزية في صاحب «عصافير بلا أجنحة»، «الحنين»، و»وعاد في كفن»:



كان اسمه، لا تذكروا اسمه

خلّوه في قلوبنا

لا تدعوا الكلمة

تضيع في الهواء كالرماد

خلوه جرحاً راعفاً، لا يعرف الضماد

طريقه إليه



وهي لم تخرج عن سلسلة عزاءات وفقدٍ ابتكرها العقد الأخير وصدّقها أوسطه وآمن بها آخره فكان عام رحيل الشعراء ومجيدي الكلمات، وهذه سنة الحياة وعزاؤنا أنهم تركوا فينا ما يخلدهم.

أن أكتب في محمود درويش أشبه بخلع بياض صفحتي هذه وتوشح أصابعي قبل سطورها بأسود الحزن عوضاً عن حبره. وكلما هممت بالكتابة عن فقد اكتشفت أن الفقد أعظم من أن يدوّن. وأكاد اللحظة أسمع سخرية الأقدار وقسوتها وهي تعلن لمحبي الشاعر في عمق حزنهم أن الكون شاغرٌ من شاعر تأمّل وتوجس كثيراً في قلقه الساخر من أجل ينتظره. وأنّه حاول كثيراً تحويل السوداوية في مناجاة نفسه ولغته التعبيرية إلى مختلف الألوان، والآن فلا القصيدة تمنحه خضرتها التي نسجها في «نشيد إلى الأخضر» و»الرجل ذو الظل الأخضر»، ولا القضية تمنحه زرقتها المشغولة بتدوين وصايا «الدانوب ليس أزرق» «يوم أحد أزرق».



لا تُذكر المقاومة بمعزلٍ عن محمود درويش، وهو الذي ملأ الدنيا بقصائد أرهفت لها روح الشارع العربي، وزينت أنشطة الطلاب رغم القيود المفروضة على مفردات النضال. زاده شعر المقاومة رهافة وتفتقت موهبته عن تجربة مستحيلة وهي إدخال الرمزية في الشعر العربي الحديث، وتجربته ليست من المدرسة الرمزية وحدها وإنما جنّد الرموز العائدة في مضمون قصائده إلى اللاوعي الساكن فيها فكان سرده وأسلوبه يصبان في نظام القصيدة الشاملة، الكاملة روحاً ومعنى ومبنى، كما استطاع أن يبدّد برمزيته الفريدة بعض هالات الغموض التي تكتنف غيرها من الأعمال السوريالية التي يتكون مجمل خطابها من الصورة الغامضة، فطرحها هو بالصورة المباشرة وما استخدامه للرمز إلّا إيماءة لمفاتيح الكلام.



أكثر ما يقرّب قصائد محمود إلى القلب هو استخدامه لهذه الرموز الرائجة في الحضارات القديمة والأديان وهي رموز الحركة في اكتمالها والغموض في إيحاءاته والتحدي في عنفوانه وقوته، ثم حضور شخصيته بعمقها وغموضها وإيحاءاتها في شعره فيكفي أنها تتيح للخيال آفاقاً غير محدودة للكشف عن استعارات وعلاقات شعرية مجازية مفتوحة وغير منتهية، فهو يعود إلى المطلق وغالباً ما نرى ذاته تحنّ وتذوب في الرغبة بين ما يريد وبين توترات تحقيق ما يريده ومن هذه كانت تناقضات هواجسه وحبه في الموت وخوفه منه.



[email protected]