علي المطوع

كافور في بلاط المتنبي

الأحد - 23 يناير 2022

Sun - 23 Jan 2022

كلنا يعلم أن المتنبي شاعر لا يشق له غبار، ولم يستطع شاعر أن يجاريه في صوره ومعانيه التي صاغها بأبيات خالدة ما زالت تجري على ألسنة الناس إلى اليوم، وهذا يعكس قدرته الشعرية وفرادته في نحت المعاني ووضعها في قوالب موزونة يصعب تجاوزها عند المتكلمين والعلماء والمتعلمين وعوام الناس.

إن صورة المتنبي التاريخية والأدبية كصانع محتوى - إذا جاز التعبير- تؤكد نجوميته الطاغية في ذلك العصر، تلك النجومية جسدها حضوره الطاغي في كل بلاط أنشد فيه شعره الخالد، وهذا ما جعله نجما قادرا على الحضور والاستمرارية في عصر كان فيه الشعر هو الوسيلة الأولى للحضور والإعلان والترويج.

المتنبي شد الرحال إلى كافور حاكم مصر طمعا في وجاهة يرتجيها وعطاء يضمن له تلك الحياة التي تعود عليها، المؤرخون يقولون إنه تلقى دعوة رسمية بمقاييس هذا الزمان ليكون ضيفا على مصر وحاكمها، وبالفعل وصل إلى مصر ونال شيئا من الحظوة المنشودة، ولكنه بعد فترة ليست بالطويلة هجا كافور هجاء مقذعا تعرض فيه لأصله ونسبه ولونه وعرقه، في أبيات ما زالت تجري على ألسنة الناس كونها تجاوزت المألوف في الخطاب مع الكبار ناهيك عن كونها تضرب على وتر عنصري بغيض، فهي تعير إنسانا بصفات خلقه الله بها ولم يكن له خيار فيها، وهذا يجسد مدى التجاوز الأخلاقي الذي مارسه المتنبي مع كافور الإنسان قبل أن يكون كافور المتنفذ والمسؤول.

في تصوري أن كافور قد خانته الدراية والتجربة في احتواء شخص كالمتنبي، ولم يستطع أن يفهم طبيعة هذا المبدع واختلافه عن سائر الناس الذين يغشون بلاطه، فالمتنبي فخور بذاته إلى درجة تتجاوز فهم كافور لطبيعة العربي القح الذي يأنف كل سلوك لا يضعه في مكانه الذي يستحقه، وربما أن كافور المسؤول قد غرته إنجازاته التي رفعته من كونه كان عبدا أسود مملوكا بيع في سوق النخاسة ليصبح لاحقا حاكما لمصر، كل ذلك أنساه وسائل التواصل وضروراته وأحكامه مع شخصية تمتهن الشعر وسيلة حضور وتعبير للوصول إلى أغراضها المختلفة.

إن طبيعة ما ألفه كافور من حياة صعبة من خلال مسيرته وسيرته من النخاسة كعبد إلى أن أصبح حاكما لمصر جعلته يتجاهل أسلوب اللين والمداراة لشخصية فريدة كالمتنبي، ويبدو أن كافور بتجربته أيضا لم يستطع فهم طبيعة اختلاف المتنبي عن الآخرين في بلاطه، وهو ما كلفه الشيء الكثير لاحقا.

نخلص من هذا وإسقاطا على واقعنا الإداري المأزوم فإن بعض الذين يتسنمون المراكز القيادية الإدارية يكون تاريخهم العملي مثل تاريخ كافور، بمعنى أن الصدفة والمحسوبية وحدها هي من بوأتهم تلك المراكز التي يشغلونها، وهذا ما يجعلهم في صدام دائم مع الكفاءات الصادقة والقادرة على إحداث تغيير إيجابي للعمل وطرقه وأساليبه، إضافة إلى أن كافور المدير يجهل طريقة التعاطي مع المبدعين والكفاءات التي تقدم نفسها من خلال عطاءاتها وليس من خلال التصنع والتزلف والتطبيل، لذلك تكون اليد العليا في أي خلاف يحدث -تكون- لأصحاب المواهب والقدرات كونهم الأكثر بقاء في ذاكرتي الزمان والمكان، فهم الذين يملكون الحجة والبلاغة وقبل ذلك الدراية والدربة، فالمتنبي على سبيل المثال أعلن في داليته المشهورة، وفي عجز بيته الشهير، الذي قال فيه إن العبيد لأنجاس مناكيد، أعلن ورسخ بقاءه كمختلف عن السائد في ذلك الظرف الدقيق من تجربته الشعرية والإنسانية، في حين أن كافور ذهبت كل محاسنه التي قيلت عنه في حياته وبعد مماته، ولم يحفظ له التاريخ من سيرته سوى هجاء المتنبي الذي مازال يجري على ألسنة الناس.

alaseery2@