هند علي الغامدي

في حبّ اللغة العربية

الخميس - 28 أكتوبر 2021

Thu - 28 Oct 2021

عبر أحد الحاضرين في محاضرة أقيمت في مجمع اللغة العربية بمكة المكرمة في مداخلة له عن إعجابه الشديد بلغة المحاضر المتقنة، وخلوها من الأخطاء، وتعجبه من قدرته على الاسترسال في الحديث بها زهاء ساعة دون أن يلحن، في حين يدرسها أقوام سنوات عديدة دون أن يتمكنوا من إتقانها، وطلب منه أن يفسر له ذلك.

والأمر المتوقع أن نستمع إلى تجربة هذا العالم في إتقان العربية، وأن يوضح للحضور الخطوات التي أوصلت عربيته إلى هذا المستوى، وأن يقدم سلسلة من الإجراءات التي مكنته من إتقان الحديث بالعربية دون لحن، ولكن المفاجأة كانت في اقتصار الإجابة تقريبا على كلمة مفتاحية واحدة مصحوبة بتهدج صوت المحاضر ودموعه.

فما تلك الكلمة التي اختزلت المتوقع، وهيجت المشاعر، وأراقت الدموع العصية التي لم يذلها صاحبها؛ بل أعزها وأعزته، وأعزت كل الدموع التي جادت في هذا المقام الجليل.

إنها الحب! الحب للغة القرآن والسنة، الحب الذي يجعل المرء ملاصقا لما يحب، تلك كانت الكلمة، وذلك كان السبب، لا أراهن على أن كل من حضر أو سمع تجاوب مع دموعه بدموع مماثلة، وحديث الدموع ولاسيما دموع الرجال ذو شأن في ثقافتنا، لم أكن هناك، لكن «حديث الروح للأرواح يسري.. وتدركه القلوب بلا عناء»، القلوب العاشقة للغة التي بها نزل أقدس كتاب على وجه الأرض، وبها وصلت أعظم رسالة في التاريخ، وتخلدت بها أعظم أمة، وتشرف بها أعظم وطن.

والواقع يقول إن موقف النظام السياسي من اللغة العربية في المملكة ممثلا في أنظمة الحكم، وقراراته، وتطلعات الرؤية، وأهدافها الاستراتيجية، داعم لها في كل المجالات، ابتداء من نص المادة الأولى من المبادئ العامة للنظام الأساسي في الحكم على أن «المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولغتها هي اللغة العربية، وعاصمتها مدينة الرياض» إلى رؤية المملكة 2030 التي تعد اللغة العربية أحد أركان تشكيل هوية المواطن السعودي؛ حين اعتمدت تعزيز القيم الإسلامية والهوية الوطنية لدى أبناء هذه البلاد أحد الأهداف الاستراتيجية التي تنبثق من المحور الأول من محاور الرؤية «مجتمع حيوي» وتنص على «تعزيز الهوية الوطنية من خلال غرس المبادئ والقيم الوطنية وتعزيز الانتماء الوطني، والمحافظة على تراث المملكة الإسلامي والعربي والوطني، والتعريف به، والعناية باللغة العربية»، مرورا بقرارات تمكين اللغة العربية في الوزارات والمؤسسات والهيئات والمجالات جميعها المبنية على النظام الأساسي.

وكذلك الجهود المخلصة، سواء أكانت رسمية أم تطوعية في خدمتها وتمكينها محليا وعربيا وعالميا، مما لا يخفى على ذي عينين.

ماذا ينقصنا إذا؟ ينقصنا الحب الذي يجعل كل ما سبق واقعا، الحب الذي يجعل كل فرد منا حريصا على إتقان اللغة العربية سواء أكان متخصصا فيها أم لا، وعلى أن يكون قدوة في نفسه لمن حوله عامة، ولمن كان مسؤولا عنه وعن تربيته وتعليمه وتدريبه خاصة، الحب الذي يجعلنا لا نقبل الخطأ فيها ولا نرضى بتكدير صفوها بأي شكل كان، لا نستسهل لغة أجنبية تحل محلها، نعم نتعلم اللغات الأجنبية وهذا مفروغ منه، ولاسيما في عصرنا هذا، ولكن ليس لاستبدالها باللغة العربية، ولا لضعف في العربية، وإنما لنشق بها بعد العربية طريق العلم والحضارة وتصدير المعرفة واستيرادها، وللتحاور مع الحضارات، والانفتاح على التجارب العالمية وخبرات الشعوب والأمم، وتبادلها، والاستفادة منها، والبناء عليها، ولنأمن ونرتقي سياسيا واقتصاديا وعلميا واجتماعيا وحضاريا.

إن حب اللغة العربية وإعطاءها التقدير والمكانة التي تستحقها هو الطريق لأمنها، فمهما وضع من القيود والأنظمة، والقرارات، ومهما عقدت المحاضرات، والمؤتمرات، ومهما حوت الكتب والصحف والمجلات، وتناولتها فقرات الإذاعات والقنوات، إذا لم يكن هناك من حب يحول ما سبق إلى واقع؛ فلا أظن أن الأمر سيتعدى ذلك، ولا أظن أنه سيكون أفضل حالا مما هو عليه الآن، ولو قلنا بتفعيل القوانين التي تحميها، والعقوبات التي تردع من يخالف قرارت اللغة العربية فهو قول حق، ولكن هل تلك العقوبات ستجري اللغة العربية على ألسنتنا وألسنة أبنائنا عذبة رقراقة تشنف المسامع وتعزف على أوتار القلوب؟ هل تخرج لنا تلك الأنظمة بلا حب الكتاب والشعراء والمبدعين الذين يصدرون الإبداع بلغتهم العربية يتشرفون بها ويتشرف بهم كل من ينتسب إليها؟

ومع ذلك فالأشد من تلك العقوبات المادية العقوبة النفسية التي تحل بمن يفرط في لغته؛ فتجعله ضائعا بلا هوية؛ فلا هو هنا ولا هو هناك، منا وليس منا، كما أنه ليس منهم وإن تفوق عليهم في إتقان لغتهم، إضافة إلى أن من لا يحترم لغته يفقد احترام الآخرين له ولها.

إن حب اللغة العربية، وتعزيز مكانتها في المجتمع، وتحسين صورتها، وتقريبها إلى القلوب وإشاعة محبتها، مطلب دولي وإسلامي وعربي ووطني، وهو جزء مهم من تخطيط المكانة اللغوية لها.

الحب حاجة ملحة لدى اللغات كما هو لدى الإنسان؛ ولذا فنحن نحتاج إلى تعلم حب العربية وتعليم حبها، وأن نكون أسوة حسنة فيه، وفي الأخذ بأسباب تمكينه، والالتزام بقواعد ذلك التمكين وقوانين تحقيقه، داعمين -كل في موقعه- تلك الجهود المخلصة في حب لغة القرآن والوطن، وخدمتها.

hindali1000@