هند علي الغامدي

التنوير في مقاييس التفكير

الخميس - 21 أكتوبر 2021

Thu - 21 Oct 2021

الطمأنينة للقلب، والتعليل للعقل؛ أمران يورثهما العلم لا غنى عنهما ولا راحة للإنسان من دونهما، وكتاب الله - عز وجل - زاخر بما يؤكد ذلك؛ فعلى سبيل المثال سنجد أن الجزء الأول من قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثىٰ وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾، بيان وتوضيح لأصل البشر، وتعليل لتكاثرهم واختلاف أنسابهم وقبائلهم، والجزء الثاني طمأنة لهم بأن مقياس التفاضل بينهم والكرامة عند خالقهم هو التقوى، ولنتخيل كيف يمكن أن تكون حياة الإنسان لو لم يعلم بتلك الحقيقة، ويطمئن بمعرفة مقياس التفاضل بين البشر؟!

ولقد أصاب من قال إن العلم نور والجهل ظلام كبد الحقيقة؛ لأن العلم ينير الأجزاء المظلمة في قلب الإنسان وعقله؛ فيفهم ويطمئن ويتناغم مع الحياة بما فيها، ولا شك أن للعلم نوافذ متعددة يطل منها على الحقيقة، لعل أهمها النافذة التي يطل من خلالها على نفسه؛ بادئا بها، مستكشفا حقيقتها التي تتجلى من خلال نواياه وصفاته الشخصية وأسلوب تفكيره وتعامله معها، مثنيا بالآخرين في تعامله معهم، يحاول أن يدرس شخصياتهم ويحلل طرائق تفكيرهم، ويستوعب تصرفاتهم، ويتنبأ بردود أفعالهم؛ متقيا ما يسوؤه منها ومستجلبا ما يسره؛ تمهيدا لحياة سوية سعيدة معهم وبهم، سواء أكانت في المنزل، أم في العمل، مع أسرته، أمه، أبيه، إخوته، أبنائه، أصدقائه، رؤسائه، مرؤوسيه، زملائه، أصدقائه.

وتعد الاختبارات الشخصية والنفسية ومقاييس التفكير أهم مفاتيح تلك النافذة؛ إذ قد تكشف للإنسان أمورا عن نفسه وعن الآخرين قد يقضي عمره محاولا تفسيرها دون جدوى، أحد تلك المقاييس مقياس هيرمان الرباعي المنبثق من نظرية (الدماغ الكلي) التي ابتكرها العالم الفيزيائي الأمريكي نيد هيرمان عام (1978)، وهو من المقاييس السهلة والسريعة والمرنة التي تناسب فئات عمرية مختلفة.يساعد هذا المقياس على بيان التفضيلات في طريقة التفكير، وأنماط معالجة المعلومات والبيانات لدى كل شخص، وكيفية فهم الإنسان لعقليته وعقلية الآخرين، وكيفية التعامل مع الكل، وتقديم التفسيرات العلمية لما نفعله ويفعله الآخرون.

ويمكن أيضا أن يساعد الإنسان أو المسؤولين عنه في تحديد التخصص والمجال الذي يناسبه، تقوم فكرته على تقسيم الدماغ إلى أربع مناطق رمزية، هي: (العقلاني: A)، (المنظم: B)، (العاطفي: C)، (الإبداعي: D)، وتختص كل منها بطريقة معينة في التفكير، تعمل معا لتشكيل الدماغ الكلي، لكن واحدة منها أو أكثر تكون مهيمنة؛ فتشكل طريقة تفكير الإنسان وسلوكه المبني عليها، مع ملاحظة أنه لا علاقة له بالذكاء، وليس هناك نمط أفضل من الآخر، فكل الناس يملكون الأنماط الأربعة، إلا أن أحدها يكون مسيطرا.

هذا المقياس مثلا يمكن أن يجعل زوجا من النمط (A) العقلاني المنطقي الدقيق الذي لا يقبل إلا الحقائق واللغة الواضحة المحددة ولغة الأرقام، يتفهم زوجته التي تنتمي إلى النمط (C) العاطفية الحدسية التي توظف اللغة غير الملفوظة كثيرا في التعامل، ويجعلها في المقابل تتفهمه وتتقبل ما قد يظهر لها منه على أنه جفاف وقسوة، وكذلك الزوجة من النمط (B) المنظمة التي لا تحب التغيير؛ بل قد تكون متطرفة إلى درجة مرهقة لا يمكن قبولها من زوج من النمط (D) المغامر الذي يحب التجريب ويستمتع بالمخاطر والتحديات، ويكره الجمود، ولا يحب القيود والأنظمة؛ فالحياة بينهما قد تكون مستحيلة مالم يفهما أنه لا استبداد ولا تحكم ولا عناد يحرك الآخر، وإنما هي طريقة تفكير، يحركها الجزء المسيطر من مناطق الدماغ الأربع.

ذلك الفهم يؤدي إلى راحة العقل والقلب، وتقبل الآخر والتماس العذر له، وإذا كان هناك قدرة على تقبل الاختلاف والتعامل معه مع الرغبة في استمرار الحياة؛ فإن كلا منهما سيسعى إلى الانسجام مع الآخر من خلال تمرير بعض السلوكات النمطية للطرف الآخر، والتنازل عن بعض ما يخصه منها.

كذلك الوالدة (B) لن تتقبل تصرفات ابنها (C) أو (D) وستتهمه بالعقوق؛ لعدم التزامه بالأنظمة والقيود التي وضعتها، والموظف الذي لا يحب التغيير(B) لن ينسجم مع المدير الذي يهمه الإبداع (D)، وسيفاجأ بأن تقديره لا يرتقي إلى مستوى طموحه؛ فلا الموظف يعلم السبب في ذلك، ولا المدير يعلم لم لا يفهم هذا الموظف ما يريد.

والمشكلة الأساس تكمن في عشوائية توزيع الموظفين، وعدم اعتماده على اختبارات ومقاييس لوضع الشخص المناسب في المكان المناسب؛ فالعمل الذي يحتاج إلى إبداع وقدرة على الابتكار والتخطيط الاستراتيجي يحتاج إلى شخص مختلف في نمطه عن الشخص الذي يحتاج إليه عمل أو تخصص يتطلب التنظيم والاستقرار والثبات والقدرة على التخطيط التشغيلي، وهكذا.

وإدارة العلاقات عموما فن تهذبه تلك المعرفة، فتجعلنا لا نتسرع في إصدار الأحكام؛ بل نحاول التماس الأعذار الممكنة متمثلين قول الشاعر: «لعل له عذرا وأنت تلوم»؛ فلعله من هذا النمط أو ذاك، أو لعل الجزء الدماغي المسيطر لديه هو السبب في سلوكه، نتفاهم وندرس أسس التعامل مع كل نمط، ونقدم التنازلات الممكنة في ضوء الاطمئنان إلى حسن النية بعد استحضارها، بلا توترات ولا أحقاد مكبوتة، نتعامل بوعي، ونتقبل اختلافاتنا ونتفهمها وفق أسس علمية، ونلتمس العلل والأعذار بلا ضرر ولا ضرار.

الأمر يستحق المحاولة على جميع الأصعدة؛ لأن معرفة الإنسان أنواع الشخصيات، وسماتها، ومميزاتها، وعيوبها، وطرائق تفكيرها، ومفاتيحها، ينعكس إيجابا عليه أولا ثم على أسرته ومجتمعه ووطنه.

فما أحوجنا إلى تلك المعرفة التي تنير عقولنا، وتطمئن نفوسنا، وتوسع آفاقنا، وتصح بها علاقاتنا، وترتقي بها مجتمعاتنا!

hindali1000@