عبدالعزيز الخضر

ما هي حدود اهتمام مجتمعنا بقضايا الغير؟

السبت - 30 يوليو 2016

Sat - 30 Jul 2016

هناك شعور متزايد بأن لدينا اهتماما شعبيا مفرطا بقضايا الآخرين والصراعات الإقليمية والعالمية مقارنة بغيرنا، لكن السؤال هل هذا الشعور حقيقي أم مبالغ فيه، وإذا كان حقيقيا فما هي أسبابه؟ وهل وصل إلى حالة مرضية أم ما زال في إطار المعقول؟ لأن ما يحدث من اهتمام كبير بكل تفاصيل ومشكلات الآخرين له أسباب واقعية نتيجة القلق على الداخل مع أي اضطرابات في المنطقة.

لتصور المتغير الذي حدث في المجتمع وله تأثير على الحاضر، فقد كان الاهتمام بقضايا الخارج والأحداث السياسية والصراعات قبل منتصف الثمانينات محصورا بنخب معينة وناشطين وهواة سماع النشرات الإخبارية والإذاعات للسواليف في المجالس والأمسيات، وهذا هو المعدل الطبيعي. مع مرحلة انتشار الكاسيت الإسلامي الواسع فقد حدث اختراق لشرائح كبيرة من طبقات المجتمع في مرحلة زمنية كاسدة إعلاميا، وأحدث اهتماما شعبويا بقضايا المسلمين كأحد محاور الخطب والمحاضرات، وهو خطاب يدور غالبا حول الدول الإسلامية المنكوبة ومناطق الصراعات.

حيث تصاغ هذه الاهتمامات بطريقة وعظية تقليدية، لا تحدث وعيا سياسيا بالعالم بقدر ما هو تنشيط لوجدان وضمير المسلم للاهتمام بأخيه المسلم، وحشد التبرعات وغيرها. ولا يتعرض هذا الخطاب لقضايا سياسية عربية إلا بحدود ضيقة عندما يأتي الحديث عن فلسطين والكيان الصهيوني، والذي تشكل قبل ظهور مرحلة الكاسيت من تيارات أخرى، وعندما غزا صدام الكويت انكشف للمجتمع حجم الجهل ولم يكن الإعلام التقليدي قادرا على إشباع الوعي.. فواصل الشريط الإسلامي حضوره في التسعينات لكن مع ظهور منافس جديد وهو الفضائيات. تلك المرحلة ليست مجرد ماض، وإنما متصلة بالحاضر اليومي، فالكثير من الذين في المشهد الآن الكترونيا.. أصبحوا منظرين وناشطين ومشاركين في صنع التفاعل، والخطاب من وعاظ ومثقفين وإعلاميين هو من نتاج تلك المرحلة بكل أمراضها وردات فعلها وتقلباتهم وصراعاتهم الأيديولوجية.

ثم جاءت اهتمامات ما بعد سبتمبر مع بدايات انتشار الانترنت، وخلقت صراعاتها ونوعية اهتمام خارجي بموضوع محدد والحرب الأمريكية للإرهاب، لكن من الواضح أن جرعة الاهتمام الفرد السعودي بالآخر زادت أيضا في هذه المرحلة نتيجة الانفتاح التقني وعدم وجود تنوع إعلامي وثقافي محلي يكفي ليشغل الفراغ الذهني الشعبي الذي يوجه اهتمامه بالخارج مع فائض الوقت الذي لديه، وكلما ضاقت مساحة الحرية للموضوعات التي يمكن أن تنتقد أو تطرح سيحدث تحول أكبر للشأن الخارجي.

وعندما جاء عام 2011 وتطورات الربيع العربي وانهياراته المفاجئة فإن الاهتمام هذا لم يقتصر على السعوديين وإنما تحول للشعوب العربية جميعا، نظرا لضخامة التغير والقلق الجماعي والتطورات المتلاحقة حتى الآن، ومع استمرار إيران في خطورتها وتدميرها للمشهد العربي في العراق وسوريا واليمن وغيرها فإن القلق الشعبي والاهتمام اليوم يبدوان مفهومين، ولهذا جاء الاهتمام الشعبي الكبير في الانقلاب التركي في تلك الليلة في سياق قلق عام حول المنطقة، وليس مجرد توجهات أيديولوجية كما يحاول اختزالها البعض.. ولم تكن تركيا حاضرة بالاهتمام في الماضي كما هو اليوم، بل حتى التجربة الأردوغانية في بدايتها تأتي في سياق مرحلة تشجيع إسلام غير مرغوب فيه لدى الرؤية المحافظة أيام موجة الهجوم على مركز راند الأمريكي.

لكن المشكلة التي حدثت في سياق هذا الاهتمام الواسع الذي فرضته ظروف المرحلة، أنه تم تحويل هذا الاهتمام إلى منطقة اختناقات فكرية، وتفريغ لشحنات وتحريض شخصي كامتداد لصراعات الواقع المحلي.. والذي يضيق بموضوعاته، فتتحول هذه القضايا إلى مساحة جدلية يومية في مواقع التواصل في مسابقة استعراض الوطنية. وكأن الوطنية يعاد اختراعها من جديد في هذا الصراعات فتختبر المواقف السياسية حول قضايا العالم ومشكلاته بأنت مع مين!؟ مع أن السياسية الخارجية أمر متغير للدولة بين مرحلة وأخرى، وفقا لظروفها حسب المصلحة الوطنية، بعكس الرأي السياسي والموقف الشخصي الذي هو تحليلات واجتهادات مؤقتة.. وعندما يريد البعض تضييقها وتصنيمها بطريقته.. بحجج دينية أو وطنية وغيرها، فإن هذا سيحول القضايا الإقليمية إلى شحن شعبي مضر.

ولهذا من الأفضل إعلاميا وصحفيا أن تبتعد الرسالة الإعلامية العامة عن الحدية بالمواقف وتتيح مساحات واسعة للتنوع في قضايا متغيرة بطبيعتها بين مرحلة وأخرى، وسيقلل هذا من مساحة المغامرات والانزلاق بمواقف مشخصنة آنية على حساب رؤية أوسع لمصلحتنا الوطنية ولمؤسساتنا الإعلامية. وقد يتوهم البعض بأن وجود مصطلحات شتائمية سهلة تساعده اليوم على توزيعها على كل مختلف معه .. لتهشيم رؤوس خصومة بسهولة عبر تخوينهم، فإن سكوت الكثير منهم لا يعني أنك نجحت بالقمع أو الإقناع، وإنما نجحت في خلق أجواء اجتماعية ضارة بالوطن ومستقبله .. وتنتظر مناسبات أخرى لتفريغها بصورة سلبية.