زيد الفضيل

أسلمة الحضارة: حقيقة أم اختطاف؟

السبت - 18 سبتمبر 2021

Sat - 18 Sep 2021

طغى علينا خلال فترة ما اصطلح على تسميته بعهد «الصحوة» مصطلح «الحضارة الإسلامية»، وفيها جرى إحكام الربط بين مفهوم الحضارة القائم على مرتكز مادي بالدرجة الرئيسة، والإسلام كعقيدة وشريعة دينية، وليت ذلك تم وفق الصيغة النبوية التي تتوافق سماتها مع جوهر البعد الأخلاقي لمنتج الحضارة المادي، وإنما تم وفق الصيغ المستحدثة لاحقا مع توالي الدولة السلطانية ابتداء بالأموية ثم العباسية وما بعدها، التي انحرف توجهها عن السمات النبوية، وعملت على تحييد قيمة العقل بما يعنيه من تفكر وتدبر وإثارة لآفاق سؤال الحيرة في أذهاننا، في مقابل التأكيد على قيمة الحفظ بما تعكسه من تلقين واستماع وتنفيذ لما يتم حفظه بشكل مباشر، ودون النظر فيما إذا كان المتن المراد حفظه وتطبيقه موافقا للمدلول والمنطق العقلي أو لا.

في عهد الصحوة استبسل الدعاة والوعاظ في ترسيخ مفهوم معين للإسلام المراد نشره في الآفاق، قوامه تطبيق الحدود الشرعية وفق وعيهم وفهمهم المجحف للأحكام والحدود؛ ولذلك تراهم حال سيطرتهم على مكان معين يجوبون الأسواق والشوارع، يفتشون هنا وهناك، يختبرون هذا وذاك، يأمرون الناس بتطبيق ما يرونه إسلاما، والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يخالف رأيهم، أو يفكر في مناقشتهم، فكيف لأحد أن يناقش من اختزل الدين في منهجه، وكان أن عاش الناس في خوف هنا وهناك، ولولا لطف الله ودفاع الناس بعضهم لبعض لتم تدمير الإيمان الحقيقي بالله الرحمن الرحيم الرؤوف بعباده، ولفقد الناس الثقة بنبيهم -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي أرسل رحمة للعالمين.

في عهد الصحوة جرى محاربة كثير من التقنيات الحديثة بحجة عدم وجودها في عهد السلف كما يقولون، لكنهم ما كانوا ليصمدوا في رفضهم لها يوما بعد يوم، ليبحث كثير منهم عن مخارج فقهية هنا وهناك، وما تم تحريمه أولا يتم تحليله لاحقا، مع احتفاظ كثير منهم بما اختزله من مفاهيم إقصائية إزاء الواقع المعاش، متمترسا خلف مقولة: (لن يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح أولها)، ومن هنا كان ربطه لمفهوم «الحضارة» بمفهوم «الإسلام» ضرورة حتمية حتى يجد له مخرجا من عزلته المعاشة، ويؤسس لعهد يكون هو قائده على الرغم من حالة المواربة المخادعة التي استأنس اللجوء إليها حين الحديث عن «الحضارة الإسلامية» من وجهة نظره.

فهو من جانب قد أوغل في محاربة المدرسة العقلية، التي صنع علماؤها آفاق الحضارة التي يفتخر بها المسلمون حتى الوقت الراهن، بل وعمل على تبديع وتفسيق علمائها عبر التاريخ، وحكم على عديد منهم بالزندقة، وتم إقصاء كتبهم ومصنفاتهم العلمية، ومن جانب آخر تراه يعمد إلى الإشادة بمنتوجهم المعرفي على الجملة وبشكل عابر، مع تقصده استلاب خصائص تلك النهضة في جانب معرفي مخصوص متعلق بمفاهيم المدرسة النقلية القائمة على الحفظ والتلقين والقبول المطلق بما يتم روايته وحفظه دون تدبر وتفكر وإثارة لسؤال الحيرة واللا مفكر فيه كما يقال، وحتما فهذا النمط من التفكير لا يصنع حضارة بأي حال من الأحوال، كما لم يكن هو الصانع لتلك الحضارة التي شهدها العالم على يد العرب خلال العصور الوسطى، والتي تم استهدافها مبكرا مع انتهاء عهد المأمون العباسي تقريبا، وهو ما يفسر توقف مسار تفوقنا الحضاري حتى الآن.

أشير إلى أن الحضارة لا دين لها، ولا تتبع عرقا أو لونا، بل هي قطار إنساني يركب فيه من يحقق الشروط اللازمة للركوب، ويقوده من يتفرد تفكيرا وعلما من راكبي هذا القطار دون النظر إلى هويتهم الدينية والعرقية وإلى ألوان بشرتهم. على أن سمة بارزة ستكون هي المسيطرة على أجواء قطار الحضارة هذا، وهي سمة الهوية الثقافية، ولذلك فحين قادت اللغة العربية قطار الحضارة الإنساني في العصور الوسطى أمكن القول بوجود حضارة عربية، كما هو الحال اليوم مع قيادة الغرب الأوروبي لقطار الحضارة الإنسانية فنصفها بالحضارة الغربية.

في هذا السياق ألفت النظر إلى أن حضارتنا العربية قد أسهم في وجودها عديد من مختلف الأجناس والأعراق ومنتحلي الملل من غير دين الإسلام كالمسيحية وغيرهم، ومنهم على سبيل المثال يوحنا بن ماسويه رئيس بيت الحكمة في بغداد التي كانت أهم مصانع الحضارة العربية في وقته، وحنين بن إسحاق، وولده إسحاق بن حنين، وقسطا بن لوقا وكلهم مسيحيون، علاوة على ثابت بن قرّة الصابئي، وغيرهم الكثير؛ وكان الجامع المعرفي لكل أولئك هو اللغة العربية على الصعيد الثقافي، والدولة العربية على الصعيد السياسي، ولذلك كان ولا يزال الأحرى بنا أن نصفها بالحضارة العربية فقط دون إضفاء أي هوية دينية عليها، ولعمري فذلك أول التصحيح والانعتاق من ملابسات عهد الصحوة المقيت.

zash113@