محمد الأحمدي

الأكاديمي وذاكرة الزهايمر

الثلاثاء - 31 أغسطس 2021

Tue - 31 Aug 2021

بدأت ذاكرة الأكاديمي المتقاعد تسافر بعيدا عن واقعه الحقيقي تارة بالنسيان وأخرى بتكرار ما قدمه من عمل خلال تدريسه الجامعي. لكن لحسن الحظ أنه استعاد قواه الفكرية على رسالة وجدها في هاتفه، وبات يتأملها من كل جانب ليحكم على مصداقيتها في ضوء ما كان يعلمه لطلبة الدراسات العليا من مهارات التفكير ليحكموا بطريقة علمية منطقية لا يشوبها الشك.

 استغربت زوجته الهمهمات التي تأتي إليها من الباب المفتوح، والكلام الذي يدور في غرفة المعيشة، فتوقعت أنه يجري مكالمة صباحية غير معتادة، ولعلها تطمئن على أبنائها المتفرقين في أرض الله، ثم رمقته بلمحة فإذا هو وحيد يكلم نفسه، ويبدو عليه الانغماس والتركيز.

ثم صاحت به: بلغ بك الكبر عتيا حتى أصبحت تحاكي نفسك هذا الصباح؟ قل لي ما الذي شغل فكرك هذا الصباح يا أبا محمد لتكون على هذه الحالة؟

يبتسم الأكاديمي لسؤال زوجته واهتمامها بشأنه، لكنه «نسي ما كان عليه، وانحرفت ذاكرته ليركز على اهتمام زوجته به. يتذكر، آسف تذكرت يا أم محمد! كنت أفكر في الخطوات الخمس التي تجعلني قادرا على التمييز بين الحقيقة والإشاعة أو على الأقل التصديق أو عدم التصديق في الادعاءات في هذه الرسائل التي تملأ هاتفي كل صباح. الزوجة: أصبحنا وأصبح الملك لله.

أتعلم بأن اليوم الجمعة؟! ويجدر بك أن تكون في المسجد، وتتفرغ لعبادة الله في هذا العمر، وإياك من هذه الممارسات التي ترهقني بها كل صباح حتى أصبحت أستطعمها مع قهوتي. ألا

ترغب أن تكون من أصحاب البدنة أو تريد أن يكون نصيبك بيضة.

يصر الأكاديمي على الصخب. أجل أجل.. سأفكر في كلامك الذي لا يخلو من خمس ركائز تجعلني أصدقه يا سيدتي،  لقد علمت هذه الركائز الخمس لطلابي حتى أصبحت أحبالي الصوتية تألف مخارج حروف تلك العبارات. «أصبحنا وأصبح الملك لله» ادعاء يحمل في معناه استنكار لما أقوم به، عرفته من السياق. وهذا نسميه في البحث الأكاديمي بالحجة أو الادعاء أو الجملة الرئيسة. ولتأكيده استخدمت التساؤل التأكيدي «أتعلم بأن اليوم الجمعة؟» وكلاهما في ذات الفكرة.  لكن أتبعت ادعاءك بسبب أو توجيه أو طلب متمثل في «يجدر بك أن تكون في المسجد مبكرا» لتقنعيني بأن أتوقف عما أقوم به وتغيير سلوكي الحالي، لا بل استخدمت العاطفة الدينية، واستغلال الموقف لرفع مستوى الإقناع في الحجة، وهذا نسميه بدعم الادعاء أو الحجة بالأسباب، لكنك نسيت بأنها هي الفاصل في التصديق أو بداية التشكيك في الحجة، وصرف النظر عن الفكرة إن كانت مكتوبة أو منطوقة.  يستطرد الأكاديمي، عموما هناك علاقة بين الادعاء والسبب نسميها بالضامن وهو المبدأ الذي يجمعهما ليتأكد الخبر أو يزيد الشكوك حول الفكرة. وقد قدمت يا أم محمد ضامنا ضعيفا جعلني أعيد تفكيري في قوة تركيزك هذا الصباح ولن أستغرب أن أضفت الملح بدل السكر. المسجد في ظل جائحة كورونا لا يفتح مبكرا، ولذا هنا سمحت لي بالتأمل في الرابط بين الادعاء والأسباب، ووجدت الثغرة التي قلصت من مصداقية الادعاء والأسباب في مقولتك. لكن أشكرك على استخدام الدليل لإثبات حجتك، وتبرير سببك لإيقافي عن ممارستي، عندما قلت: «كن من أصحاب البدنة ولا تكن من أصحاب البيضة».

هذا في الحقيقة نسميه بالدليل الملموس الذي يأتي من الدراسات السابقة ويتضمن دائما أرقاما وإحصاءات، لكنه في غير محله اليوم في حال إغلاق المسجد. الزوجة: أما زلت تتكلم؟ الأكاديمي: ألم تسمعي ما قلت!؟ أجل: بقي فكرة اسمعيها وننتهي من الخطوات الخمس التي نحكم على صحة الحجة أو الخبر. 

إنك تجاهلت ردة فعلي، ومدى استجابتي، والآثار المترتبة على خروجي مبكرا خارج المنزل في ظل ظروف الجائحة، ونسيت أن تعتبري أن خروجي قد يتسبب في إصابتي بالفيروس المشؤوم، حيث لم تكتمل مناعة اللقاح للجرعة الثانية في جسدي، ولذا فقد أتسبب في نقل العدوى لك فتتضررين. الزوجة: «ليس بعد هذا الضرر ضرر، تحاضر في الجامعة لثلاثين سنة ثم تريد أن تكررها علي ثانية، لقد حفظت كل ما تقوله جراء تكرارك هذا.  ولكن عزائي في أن في الجنة يعود الناس على هيئة شبان في الفكر والجسد يا أبا محمد. فهذا الهذيان سينتهي في هذه الدنيا، لكني سأصدقك القول بأني تعلمت منك ما أفرق به بين الحقيقة والإشاعة.

alahmadim2010@