شاهر النهاري

من يحدد قيمة الراحل؟

الثلاثاء - 11 مايو 2021

Tue - 11 May 2021

اختلفت المقاييس والقيمة الإنسانية بعد عربدات هذا الفيروس المزهق لحيوات البشر، على جروح سطح المعمورة المبتلاة.

كان للإنسان قيمة مرعية، تتحدد بكينونته، ومساره الشريف في حياته، وقدرته على إسعاد نفسه، ومن حوله، بمشاعره، وعطائه، ومهنته، ومصداقيته، ولم تكن تختلط أوراق القيمة كما خلطها (كوفيد 19)، ومتحوراته بتقليص وتمييع القيمة بمجرد الرحيل.

قادة وسياسيون وأثرياء وأعلام ومشاهير، تمت معاملتهم كما الجيف العفنة، بعد أن غزاهم الكوروني وتمادى في تعذيبهم بحبس أنفاسهم المستحثة، ثم نزع أرواحهم عنوة.

بوجوده توقفت معظم بروتوكولات التعامل مع المرضى المخطرين، والجثامين المحرومة حتى من شكليات الوداع الأخير، وتماهت أسماؤهم وأبعادهم، وألقابهم وطرق تأبينهم، بل إن كثيرا منهم دفنوا كيفما اتفق، وبنفس الحالة والهيئة والملابس، والبعض منهم أحرق بشكل جماعي يصعب تقبله في قلوب أحبابهم.

العلماء والساسة والفلاسفة والمبدعون والمشاهير، طالما اختارهم الفيروس فلن تشفع لهم مناصبهم ولا منجزاتهم ولا تاريخهم بنهايات مختلفة، إلا في أضيق الحدود.

الأب، والأم، رغم قدرهما العظيم، الطفل الصغير، الأخ والأخت، المحبوب والشريك والأب الروحي، كلهم حينما يرحلون، يتساوون مع أي راحل فقير مجهول، مهما كانت المشاعر الحياتية نحوهم، تعتصر القلوب، والعذر أن الخوف الشديد من المجهول يجعل المودع يقنن من تعاطفه وطرق وداعه، ليبقى على البعد دون حتى قبلة وداع، ودون تأطير قيمة لمسميات وأملاك وإنجازات.

ولم لا، فقد ابتلينا بفوبيا عصرنا الكوروني، والتي ستعيش معنا ما حيينا، مع أسئلة ملحة تطاردنا، وشعور بالتقصير في تعاملنا مع الراحلين وعلى عكس ما يستحقون.

عذاب ألا نتمكن من توضيح الصور للراحل قبل سوء رحيله، ولا احتواء هاجس الدفن في خوفه ووحدته قبل لحده، وأننا لم نتمكن من القيام بحقوقه وواجباته علينا، ونظل نندب حظه، فمن منا لا يستحق الرحيل بشكل طبيعي مستحق؟

رأينا كيف اضطرت دولة بريطانيا لتوديع راحلها الأمير فيليب زوج ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية بطريقة مقتضبة لم يعتد عليها مشاهير الزمن الماضي، ورأينا في نفس الوقت تعاظم حالات الموت في الهند، بأرقام قياسية، ما قلص، بل مسخ جميع الترتيبات، التي كانت متبعة لديهم، ليكون حتى حرق الجثامين بالجماعات، ودون دنو قريب أو حبيب، ودون تمييز ذرة رماد.

فيروس عديم الرحمة والذوق والدبلوماسية، ولكنه لم يكن عنصريا في خيارته.

وتلك أحداث جسيمة للتاريخ، وإن بقينا أحياء بعد زوال الفيروس، فلن يتردد البعض منا في العودة لقبور من رحلوا، ومناجاة أرواحهم والدعاء لهم، والبكاء بذنب عقدة التقصير، والبعض سيفتح العزاء في روحه، ويكتب الشعر، ويمتدح، ويندب الحظ، في محاولة منه لدفن مشاعر عجزه حتى عن الاعتذار للراحل عما ليس له يد فيه.

البعض سيفقد الشعور مستقبلا، ولن يرفع مستويات حميمية الوداع عند أي رحيل جديد بعد عصر كورونا، والسؤال يظل حائرا، فما الفرق بين من رحل بسبب الفيروس، ومن رحل بلا وباء؟!

قيمة الإنسان تحددها صعوبة واستحالة الظرف، وخطورته، وليس بظنون ولا أمنيات المريدين والمحبين والمتباكين والمادحين لمن هم تحت التراب وكما قال الخيام:

لا توحشَ النفس بخوف الظّنون

واغنم مِن الحاضرِ أمَنْ اليقين

فقد تساوى في الثرى راحلٌ

غداً وماضٍ مِن ألوف السنين

shaheralnahari@