زيد الفضيل

ثقافة الإحسان.. سفراء التطوع نموذج

الاحد - 09 مايو 2021

Sun - 09 May 2021

نعلم بأن الإحسان درجة عالية في منظومتنا الدينية، وتكمن قوته في وصول الروح المؤمنة إلى قدر كبير من الشفافية بحيث تعبد الله كأنها تراه، فإن لم تكن تراه فإيمانها كبير بأنه قريب منها برحمته وعدله، ومطلع على أحوالها بلطفه ومغفرته، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

إنها صورة عظيمة من الإيمان التي ليس صعبا على أحد بلوغها، فلم يكن الله ليجعل أمرا محالا بلوغه، وذلك من لطفه ورحمته بعباده.

وواقع الحال فالإحسان بذلك المفهوم المتفق عليه هو سلوك يمكن لأي أحد بلوغه بالتنشئة التربوية السليمة، وهو ما يمكن استجلاؤه من حديث نبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- في قوله: (بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا، قال: في كل كبد رطبة أجر)، وتنبيهه عليه الصلاة والسلام من التهاون في الالتزام بسلوك الإحسان بقوله: (دخلت امرأة النار في هرة؛ ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض).

ولذلك فقد جاءت السنة المطهرة لتؤكد على فضل مساعدة الآخرين وقضاء حوائجهم مصداقا لقول نبينا: (أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظا ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل)؛ كما جاءت الذاكرة الشعبية لتعزز بأمثالها المتعددة ذلك السلوك السوي ومن ذلك قولهم: الناس بالناس والكل بالله، وقولهم: قوم تعاونوا ما ذلوا.

ويمكن أن تتعدد صور الإحسان في حياتنا لتتمثل في إطارها الفردي بأعمال التطوع المختلفة، التي يتوجه إليها الفرد من تلقاء نفسه، انطلاقا من مبادئ وقيم نشأ عليها، فيبذل الجهد والوقت والمال والفكر في خدمة من توجه له بتطوعه ودون انتظار عائد مادي في المقابل؛ وقد كان ذلك سلوكا شائعا في مجتمعنا سابقا حين كانت القرية بحقولها الزراعية تجمعهم، والمدينة بسورها تضمهم، فكانوا جميعا يدا واحدة في السراء والضراء، رجالا ونساء، شبابا وكهولا، فقراء وأغنياء.

على أن ذلك السلوك السوي قد أخذ في التراجع مع تلاشي مفهوم القرية والمدينة القديمة أمام طغيان ثقافة المدينة الكونية المعاصرة، التي أعادت إنتاج العمل التكافلي في صيغة جديدة وبشكل مؤسسي عبر ما يعرف بجمعيات العمل الخيري. وكان الغرب بحكم مدنيته المبكرة سباقا إلى الاهتمام بالعمل التطوعي، ليبلغ عدد المنتمين لثقافة الإحسان في صورته التطوعية الملايين في مختلف المجالات والتخصصات.

ونحن اليوم لم نعد ببعيدين عن هذا السلوك السوي في صورته المؤسسية، حيث أبانت الأحداث عن همة عالية في نفوس أبنائنا وبناتنا الذين سارعوا إلى تقديم أنفسهم وقت الحاجة، مستحضرين ما تختزنه ذاكرتهم الوجدانية من قيم نبوية وسلوك مجتمعي تكافلي، وكان أن برز أولئك بشكل مشهود مع كارثة السيول بجدة قبل عقد من الزمان، فشكلت تلك الحادثة نقطة لولادة عدد من الجمعيات التطوعية، وأحدها جمعية سفراء التطوع التي تأسست رسميا العام الفائت، وقدمت خلال مسيرتها القصيرة كثيرا من المبادرات التي تزيد على الثلاثمائة، كما فاق عدد المستفيدين من برامجها ومبادراتها على الأربع وعشرين ألف إنسان، وزاد عدد المتطوعين فيها على الأربعة آلاف إنسان ذكورا وإناثا، وجميعهم يبذلون قدرا كبيرا من جهدهم ووقتهم دون عائد مادي بتاتا.

ومع تأييدي لقيمة ما يقدمونه من إحسان خالص لوجه الله، ودعائي ودعاء الناس لهم ظاهرا وباطنا، إلا أني أرفع صوتي مناديا الجهات المعنية بتقنين برنامج عملي لمكافأة أولئك الشباب، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله، وحتما فتقدير مكافأة يسيرة تساعدهم على دفع تكلفة التنقل على الأقل كفيلة بتقديم أبلغ الشكر لهم، ناهيك عن اعتماد تقييم شهادات خدمتهم التطوعية في دراستهم إن كانوا طلابا، ومواقع عملهم إن كانوا موظفين.