أحمد الهلالي

القصص الشعبي التمثيلي!

الثلاثاء - 30 مارس 2021

Tue - 30 Mar 2021

في المجالس الشعبية تسمع عجائب أدبية، بين الشعر والحكايات والأقاصيص والأساطير والخرافات، ومن القصص ما يأتي في سياق التمثيل لغايات يرومها المتحدث، فحين يرى أو يسمع شيئا يبادر إلى القول «أنت مثل ....» أو «ذكرتني بالذي ....» ولتمثل الأمر تمثلا واضحا سأسرد هذه القصة.

حين كنت في الثالثة عشرة تقريبا، جلست في مجلس (حق)، ومجالس الحق القبلية تشبه قاعة المحكمة إلى حد ما، لها بروتوكولاتها، ولغتها الخاصة، حيث يبدأ الحكم أو الحكام بافتتاح الحديث، بمقدمات منمقة موشاة بالحكم والمواعظ، وتذكير بالقربى والشيم والعادات والسلوم، ثم يبسط كل خصم دعواه بكيفية مرتبة ومفصلة ومنمقة حسب قدراته، ومن مسؤولية الحكام ضبط المجلس، والسعي ما استطاعوا إلى حل القضية، وفي ذلك المجلس الذي حضرته علا الصوت، وتطاير شرر الخصومة بضراوة، فكان الشيخ أحمد بن عبدالله الغبيري الهلالي ـ يرحمه الله ـ من الحكام، وأراد أن يهدئ أحد الخصوم المتعنتين، ويلفته إلى أمر ما، فناداه وتمثل بقصة، حكاها بأسلوبه السردي المشرق:

«يقال إن رجلا زار صديقه، فرأى عنده (عبدا) قويا ونشيطا ومخلصا، فعرض شراءه، فقال صديقه: سأهديك أفضل منه، فهذا يبور (يتوقف تماما عن العمل) يوما واحدا في السنة، فأبى الرجل إلا ما اختار، وقال: يوم واحد فقط؟، قال: نعم. قال: لا مانع، سأصبر على بورته ذلك اليوم. وأخذ العبد وعاد إلى ديرته، وكان أنشط العبيد في خدمة سيده، وذات يوم، هطل عليهما مطر غزير في المزرعة، وفي طريق العودة احتجزهما السيل، فقال العبد لسيده المسن، سأحملك على ظهري، وحين توسطا السيل الهادر، توقف العبد، فقال سيده:

تحرك كيلا يجرفنا السيل، فلم يتحرك، وألح عليه بصوت عال، فنظر إليه العبد وقال: جاءت البورة ياعم». فضحك الحاضرون والشيخ عجبا من توقيت البورة الخطير!

هذه القصة لم تبرح ذهني مطلقا، وحين تأملتها وتأملت سياقها، وجدتها قصة تمثيلية أكثر منها حكاية، وهي تشبه إلى حد كبير القصص القرآني والنبوي التمثيلي في تكوينها الغائي، فقد أوردها الشيخ أحمد لغايات، أولها تخفيف الشحن النفسي للخصوم بعد احتدام الكلام وحدته، والأمر الآخر المهم أن يتمثل الخصم المتعنت القصة ويأخذ منها عبرة، من خلال عقد التشبيه بينه وبين المشبه به في القصة، وإسقاطها على موقفه وحديثه المتعنت، فكان لها تأثيرها الفاعل، فقد هدأ الجميع، وثاب الخصم إلى رشده، وسادت الروية والتعقل، فقام الحكام (يتشاورون) ثم عادوا، وحكموا، وبسطت المائدة في جو ودي، لم أتخيل يومئذ أن يسود، بعد تلك الحدة القاتمة.

إن تأمل الخطابات الأدبية الشعبية الحية حقل ينتظر الباحثين، ويجدر أن توليه المؤسسات الثقافية والأقسام الإنسانية في الجامعات عنايتها توثيقا ودراسة واستجلاء، فالأدب الشعبي رافد مهم من روافد ثقافتنا الجديرة بالعناية والاهتمام.

ahmad_helali@