دلال العريفي

أحاديث إدارية.. لغة الثقة

الاحد - 28 مارس 2021

Sun - 28 Mar 2021

كثيرة هي الأشياء التي نفهمها دون أن يكون بيننا وبينها لغة أو تواصل لغوي حقيقي، إلا أن معانيها العميقة تتغلغل داخلنا. فللمساء لغته، وللشروق والغروب والربيع والزهور لغة. ومع أن الزهور لا تتحدث، إلا أنها تمتلك لغة خاصة تحمل رسائلها إلى عمق الروح، وكذلك كثير من الأشياء. وليسمح لي القارئ الكريم هنا بالحديث عن لغة الثقة.

هل للثقة لغة؟

لا يمكن أن أدعي أن هناك لغة محددة للثقة، ولا يستطيع أحد أن يخترع أبجدية للثقة يتعلمها الناس قراءة وكتابة فيتقوننها. لكننا نشعر أن للثقة شيئا ما يشبه لغة الزهور، ويشبه كثيرا اللغة التي نتواصل بها مع الآخرين، ونتأثر بها سلبا أو إيجابا. فهي ليست كلغات العالم، وإنما لغة تتجلى في الأفعال أكثر، وتظهر في الاستجابات أكثر وأكثر.

على المستوى الشخصي، لدينا جميعا أشخاص نثق بهم تمام الثقة، وليس ذلك لأنهم أقنعونا أو أجبرونا أن نجعل ثقتنا خالصة لهم. فمنح الثقة لا يكون كذلك، والكلمات وحدها لا يمكنها أن تنجح دون أفعال. إذن ليست المسألة في أبجدية أو لغة خاصة تجعلنا نثق بالآخر، بل هي أمور ندركها بالمشاعر والعقل. فحين نثق فبسبب موقف تجلت فيه لغة الجدارة والاستحقاق لتلك الثقة، أو صورة عملية تجسدت فيها لغة المبادئ والقيم الأسمى، فما كان منا إلا أن نستوعب تلك اللغة ونتفاعل معها.

وفي بيئة العمل، هناك لغات متفاوتة للثقة، وقد ترى كيف أن اللغة تختلف والاستجابات تتبعها فتبادلها ثقة بثقة، وربما حذرا بحذر. فلغة الثقة في عالم الإدارة تتشابه واللغة التي تحدثت بها تويوتا اليابانية بعدما كانت منتجاتها تقابل بالازدراء في الأسواق الغربية. فبعد سنوات من سيطرة السيارات الأمريكية على الأسواق برغم ارتفاع

أسعارها، تجلت بوادر الثقة في المنتج الياباني لدى الجميع، وأصبحت لغة الثقة اليابانية مسموعة عالميا.

كان هناك من يعتقد أن اللغز الثقافي الشرقي صنع التفوق الياباني وأنه شيء لا يفهم ولا ينقل، لكن الدراسات والتحليلات المتعمقة أكدت أن التجربة اليابانية الناجحة قابلة للنقل والتطبيق في بيئات أخرى، وفيها تكمن الأسرار التي جعلت تويوتا تجتذب ثقة الشركات والأفراد حول العالم. ولعل من أبرز ما حققته تويوتا وبلغة واثقة مع المستفيدين، تطبيقها لنظام (JIT) أو نظام التوقيت الدقيق (Just In Time)، والذي يرسخ مفاهيم الرؤية اليابانية للجودة والتحسين المستمر، فكسبت السوق وثقة العميل.

في المقابل، كانت نوكيا في زمنها اللاعب الأساسي على ساحة الهواتف الذكية، فنالت ثقة أكثر المستخدمين حول العالم. وهذا الأمر جعلها تتوهم أنها كسبت رهان الثقة للأبد، وأن المستقبل تحت هيمنتها. لكن الأمر لم يكن كذلك، فبدون مقدمات صاخبة، انهارت نوكيا في مقابل المنافسين الجدد. ومن التحليلات المنطقية لهذا المصير المؤسف، كان فقدان ثقة العملاء والأسواق العالمية في تقنيتها السبب الأبرز.

والسبب الآخر كان إداريا صرفا، حيث كانت إدارة نوكيا متشتتة كثيرا في اتخاذ القرارات، متأخرة دائما في التوقيت، فبعد انهيارها خرج عدد كبير من مسؤوليها السابقين بقصص تبرهن على هذا التشتت، واتفق أغلبهم أن الشركة كانت دائما منقسمة على نفسها، وتعاني من تحزبات عديدة، وأن كل حزب بما لديهم فرحون، ويسعون لمصالحهم الشخصية. وهذه الأمور كانت أساسية في جعل نوكيا غير قادرة على الرد على التهديدات الذكية الجديدة، وعاجزة تماما عن مجاراتها. وحين أصدرت نوكيا منتجها «الذكي» NOKIA N8 عام 2010، كان العديد من المستخدمين قد انتقلوا بكل ثقتهم للشركات الأذكى.

واهمة هي بعض المؤسسات حين تظن أن مشكلاتها التنظيمية أو التخبطات الإدارية ستكون بعيدة عن اهتمام المستفيد الواعي بلغات الثقة، وواهمة أكثر إن ظنت أن الثقة التي تبنيها يمكن أن تصمد للأبد. يبقى الجمهور متابعا يقظا للكثير من الأمور، مستوعبا كل لغات الثقة «العملية» التي تتحدث بها المؤسسات قولا وتخطيطا وتنفيذا وبالتأكيد سيتجه إلى من يعتقد أنه جدير بثقته. وجميلٌ أن نتذكر أنه كما تذبل الزهور دون كلام، تذوي الثقة مثلها حتى وإن كانت منتعشة وجميلة سابقا.

darifi_@