عبدالله الأعرج

الأستاذ الجامعي الجميل!

الاحد - 14 فبراير 2021

Sun - 14 Feb 2021

لا يمكن للمقارنات أن تتوقف في الحقول المهمة من الحياة، ومنها حقل التعليم، فالمقارنات لا تنتظر الإنسان ليأذن لها أو يمنعها، خاصة إذا كانت تتعلق بقطاع أفنى فيه المتعلم ما لا يقل عن 16 ربيعا من عمره.

وفي الجامعة يكتمل رشد الطالب ويصبح مؤهلا بايولوجيا وفكريا ليزن الأمور بالقسطاس المستقيم. ولا أدل على هذا النضج من مبادرة جامعات الدنيا بإعطاء الطالب الفرصة ليختار تخصصه، وينتقي أستاذه، ويحذف ويضيف ويؤجل ويسجل بمحض إرادته. كلها مؤشرات على استقلالية القرار وحرية التصرف لدى ذلك الشاب وتلك الشابة.

ثم تمضي السنين وينغمس الخريج الجامعي في منعطفات الحياة والعمل دون أن تنغمس معه ذكريات الجامعة تحديدا، بل على النقيض، فهي تصبح عند تذكرها (كالعود) المعتق الذي يملأ المكان بأرومته وعبقه الآسرين.

اليوم، أجد نفسي - كما وجد غيري نفسه - أمام حالة مراجعة للدراسة الجامعية لمرحلة البكالوريوس وتحديدا لأستاذ تلك المرحلة: كيف كان أداؤه، هل كان مؤثرا أم عاديا، متمكنا أم ضعيفا، مريحا أم مزعجا، كريزماتيا أم بسيطا، ملهما أم محبطا، محبوبا أم مكروها، مصدر إعجاب أم منبع اكتئاب، وغيرها كثير.

أسئلة تتوالى دون ترتيب وقتي وتتزاحم دون اعتبار لأي سياقات مكانية أو أدبية أو حتى منطقية. أسئلة من نوع غريب ذلك أن إجاباتها موجودة سلفا لدى السائل، وكأن الوقت قد حان ليجيب بأثر رجعي على ظنونه السابقة وشكوكه البعيدة.

وبأمانة لا يزاحمها شائبة فقد كان لأستاذ الجامعة في فترة الثمانينات والتسعينات الميلادية حضور قوي فاعل مؤثر على كافة الصعد، في تلك الفترة لم يكن الحديث - كما هو اليوم - عن الأستاذ الجامعي مرتبطا حصريا بقضايا النجاح أو الإخفاق بالمقرر الدراسي (رغم أهميتها)، بل ارتبط بأبعاد الاستفادة من علمه، والاتكاء على رجاحة رأيه، والإيمان بتوصياته العلمية، والغوص معه في معتقداته الأكاديمية حيال التخصص و الدراسات العليا واختيار المواد والتعاطي مع العمل المستقبلي واختيار البحوث المناسبة والبقاء أو المغادرة من قسم لآخر حينما تظهر بعض العلامات الحيوية المبكرة للنجاح أو الإخفاق.

أستاذ الجامعة في تلك الفترة بتقديري كان كريزماتيا إلى الحد الذي تلتهب المجالس الطلابية بذكر اسمه ما بين محب له، ومحذر من الدراسة معه، ومتطلع لحضور محاضراته، ومنافح عنه وجافل منه.

أستاذ ذلك الزمن كان ملتزما كثيرا بأدبيات العمل الأكاديمي وشكلياته، فتراه يناقش الطلاب كما يناقش زملاءه في مجلس القسم، وتراه يخلق من قضية علمية مرتكزا لجدل يستطيل في كل اتجاه بحثا عن فكرة تتوارى هنا أو هناك أو إجابة ترضي جميع الأطراف.

ولن أنسى أن أستاذ تلك المرحلة كان ملتزما بهندام ولزوم الدكترة، فشنطته لا تفارقه يستهل اللقاء بفتحها على طاولته، وهي تعج بأقلام السبورة ومثلها للتحضير والتصحيح ومثلهما مجموعة من الأوراق والكتب والمذكرات، فتكون الدقائق الأولى من المحاضرة أشبه بالقداس أو البروتوكول المنضبط نغما وإيقاعا على مرأى من الطلاب، قبل أن ينحي تلك الحقيبة جانبا وكأنه يستأذنها لتبدأ المحاضرة ويطيب الكلام.

وللهيبة الأكاديمية والوقار في حضرة أستاذ الجامعة آنذاك مكان لا تخطئه العين ولا يشكل على الفهم، هيبة من نوع إيجابي فاخر يشعر الطالب في حياضها أنه أمام استحقاقات لا بد أن تدفع والتزامات لا بد أن توفى، فالجامعة آنذاك تسير بإيقاع موزون يشبه سيمفونيات موزارت وبيتهوفن وروسيني.

ومع جمال كل ما ورد أعلاه، فإنه لا يعني بحال أن أساتذة الجامعات كانوا يعزفون ذات النغم فيطرب الطلاب له بذات الأذن، بل إن الصفة السائدة حينها كانت ذلك الجو الأكاديمي الجميل والشعور الجميل الذي نتذكره اليوم فنسترده ونحكم عليه بحيادية كشهود على ذلك العصر بما فيه من ألق وروح وحياة.

ومن يدري، فقد يكون لأبنائنا وبناتنا نظرة لا تشبه نظرتنا وموقفا لا يتماهى ولا يتسق مع أيديولوجياتنا، فلكل زمان أهله وفكره، ولكل مرحلة عمرية مساقاتها وقناعاتها، ويبقى رغم كل هذا وذاك الإيمان الكبير بأننا نسترجع اليوم جمال الأمس الذي تعلمنا فيه على أيدي أساتذة كبار في قدرهم، عميقين في فهمهم وصادقين في عطائهم، فلهم منا كل الثناء والدعاء أن منعوا جمال ما قدموه لنا من الاندثار والفناء.