شاكر أبوطالب

دروس من المواجهة الأولى!

الأربعاء - 10 فبراير 2021

Wed - 10 Feb 2021

في البدء، وبالأرقام والبيانات التي حظيت بإشادة كثير من حكومات الدول والمنظمات الأممية، تعد المملكة العربية السعودية من أفضل الدول عالميا إدارة لأزمة فيروس كورونا المستجد والحد من تداعياتها وتقليص حجم آثارها، بفضل القيادة الحكيمة من لدن خادم الحرمين الشريفين وولي العهد الأمين، لحكومة المملكة وتعاملها الاستثنائي وجهودها المستمرة منذ البدايات الأولى لظهور الفيروس، والتعاون المميز بين الوزارات والهيئات الحكومية منذ تسجيل المملكة لأول إصابة بفيروس (كوفيد 19)، ومواصلة العمل من قبل المنظومة الصحية والأمنية للسيطرة على معدلات انتقال العدوى.

وتركزت عوامل النجاح في الاستجابة السريعة والتعامل الجاد منذ الأيام الأولى، من خلال العزل التام للبؤر الأولى التي ظهر فيها الفيروس في المملكة، ومنع التجمعات البشرية الكبيرة بإقرار التعليم والعمل عن بعد، وغلق المساجد ومراكز الرياضة والتسوق والترفيه، وحظر التنقل الداخلي بين المناطق والمدن، وغلق المنافذ الجوية والبرية لضمان عدم دخول الحالات المصابة من الخارج، وفرض الحظر الجزئي ثم الكامل داخل المدن، وغيرها من القرارات والتدابير الوقائية.

ومع بلوغ الفيروس لذروة انتشاره اليومي بتسجيل نحو 5000 إصابة جديدة وقرابة 60 حالة وفاة في منتصف يونيو الماضي، ساهمت الإجراءات السابقة بشكل رئيس في تراجع الإصابات وانحسار العدوى، إلى جانب الرقابة الصارمة لتطبيق التعليمات الصحية الملزمة بارتداء الكمامة والتباعد الجسدي في الأماكن العامة بعد الرفع التدريجي لحظر التنقل، حتى بلغ عدد الحالات اليومية أقل من 100 إصابة جديدة وحالتي وفاة مع بداية يناير الماضي.

ورغم العودة لفرض الإجراءات الاحترازية المشددة بصورة جزئية ومؤقتة؛ نتيجة ظهور مؤشرات أولية لإمكانية حدوث موجة انتشار ثانية للوباء، واكتشاف بعض الإصابات الجديدة بسلالات متحوّرة من الفيروس، لا تزال المملكة في وضع جيد ومطمئن.

وينبغي الإشارة هنا إلى أن التعامل مع أزمة كورونا في بداياتها وموجتها الأولى لا بد أن يختلف عن التعامل مع الموجة الثانية للفيروس، بحسب مستوى انتشار العدوى، وطبيعة الإجراءات المتخذة وسرعة تنفيذها ونطاقها الجغرافي ومداها الزمني، بسبب انتفاء عامل المفاجأة في الموجة الأولى، وتراكم الخبرات وتطوّر المهارات، ونتيجة امتلاك المعرفة بعوامل القوة ومواطن الضعف وفرص التحسين التي أتاحتها المواجهة الأولى.

ولأن البنية التقنية والإمكانات الرقمية تم اختبارها والوقوف على جاهزيتها ومستوى كفاءتها في الوفاء بمتطلبات التعليم أو العمل عن بعد، دون إخلال بالحد الأدنى من مستوى الخدمة أو الإنتاج. لذلك فإنه يسهل اللجوء إلى تفعيلها بكل سرعة ومرونة متى دعت الحاجة إلى ذلك، وأيضا في المقابل يسهل تعليق العمل بها مع انخفاض مؤشرات الفيروس إلى المستويات المستهدفة.

وفي ظل عدم اختفاء الفيروس بشكل كامل، وتسجيل العشرات من الإصابات الجديدة، يواصل الطلاب والطالبات تعليمهم العام والجامعي عن بعد، استمرارا في تطبيق التباعد الاجتماعي ومنع التجمعات البشرية، ولكن ما يصعب فهمه هو عودة الموظفين لمكاتبهم وتقليص العمل عن بعد في حدود ضيقة جدا، وإعادة فتح المساجد لاستقبال جموع المصلين.

وكأن مقار العمل والمساجد ليست من ضمن التجمعات البشرية التي تزداد فيها احتمالية انتقال العدوى، خاصة وأن الموظفين والمصلين يجتمعون داخل منشآت مغلقة تفتقر معظمها إلى مزايا التهوية الجيدة وتوفر المساحات الكافية لتطبيق التباعد الجسدي، وبالتالي فإنه من الخطورة استمرار هذه التجمعات البشرية داخل تلك الأماكن؛ لأن انتشار الفيروس يحتاج فقط لوجود إصابة واحدة.

وأيضا من الدروس المستفادة من المواجهة الأولى، ضرورة الأخذ بعين الاعتبار التباين في عدد الحالات المصابة ومعدلات انتشار الفيروس من مكان إلى آخر، لأنه من غير المجدي تطبيق الإجراءات على جميع المناطق والمدن في ظل اختلاف عدد الإصابات، والمقترح هنا تحديد مستويات معينة لمؤشرات نشاط الفيروس ومعدلات انتقال العدوى، ويتم تصنيف المناطق والمدن على أساسها، وبناء عليها تفرض الإجراءات الاحترازية المناسبة، من أجل توفير حد أدنى من المرونة والتوازن للمساهمة في تخفيف الآثار النفسية والاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن تطبيق الإجراءات.

إلى جانب ضرورة الاستفادة من إمكانات تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة للتنبؤ التقريبي بحركة الفيروس ونشاطه وانتشاره، من خلال إخضاع المدخلات والمعلومات والبيانات الخاصة بالموجة الأولى من الفيروس في العام الماضي، لتجنب تكرار أي سيناريو سبق حدوثه واختبار آثاره، وتحمل نتائجه وتكاليفه.

كما ثبت بشكل قاطع بأن سرعة فرض الإجراءات المشددة والتنسيق الكامل لتطبيقها في وقت موحد من أهم عوامل النجاح في السيطرة على انتقال العدوى، من خلال إعلان البيانات الصحفية الحكومية بأسلوب واضح ومفصل، خاصة الموجهة لبيئات العمل في القطاعين الحكومي والخاص، لمنع احتمالية حدوث الخطأ في الاجتهاد والتقدير والتفسير من قبل قيادات بيئات العمل، وبالتالي تفاقم عدد الحالات المصابة وخروجها عن السيطرة، وتحولها إلى بؤر نشطة لانتشار الفيروس، قد تلقي بظلالها السلبية على بيئة العمل، وتؤدي إلى مزيد من الخسائر الاقتصادية نتيجة توقف الخدمة أو تعطل الإنتاج.

ولا شك أن صحة الإنسان والمجتمع أولوية غير قابلة للمساومة، ومقدمة على أي اعتبارات أخرى، لكن هذا لا يقلل من أهمية الجانب الاقتصادي للمنشآت الصغيرة والمتوسطة والمشاريع الفردية، خاصة التي تأسست وفق مفهوم بيع الخدمة المميزة أكثر من توفير المنتج، وتحديدا تلك التي تعمل في الأماكن المغلقة، وهي الشريحة الأكثر تضررا من الإجراءات الاحترازية والتباعد الجسدي ومنع التجمعات.

وفي مقدمة العوامل التي ساعدت كثيرا في صمود المنشآت الصغيرة والمتوسطة والمشاريع الفردية في المواجهة الأولى، هو إعلان قيادة المملكة حزم من المبادرات العاجلة والإضافية والمستمرة للتعامل مع آثار وتبعات الجائحة، للحد من الآثار المالية والاقتصادية على القطاع الخاص والأنشطة الاقتصادية الأكثر تأثراً من تداعيات الوباء، المتمثلة في الدعم والإعفاء والتحفيز، وتعجيل صرف المستحقات للقطاع الخاص، وتأجيل سداد المستحقات الحكومية، ساهمت بتوفير السيولة النقدية اللازمة للقطاع الخاص وتمكينه من استخدامها في إدارة أعماله وأنشطته الاقتصادية.

ورغم ذلك كله؛ ينبغي الأخذ بعين الاعتبار عند فرض الإجراءات الاحترازية حجم وتأثير الخسارة التي ستتكبدها المنشآت الصغيرة والمتوسطة والمشاريع الفردية، فلربما تكون مصدر الدخل الوحيد للفرد والأسرة، وكذلك مصير العاملين فيها خاصة مع اشتراط نسبة سعودة محددة لتشغيل تلك المشاريع والمنشآت.

وفي الوقت الذي يجب فيه استيعاب أهمية هذه الإجراءات الاحترازية وضرورة فرضها للتحكم في نشاط الفيروس، والوعي بحجم آثارها المعنوية والمادية، ينبغي عدم إغفال حقيقة كونها إجراءات مؤقتة، خاصة مع مواصلة الحكومة العمل على توفير الكمية الكافية من اللقاحات المعتمدة لتحصين جميع أفراد وشرائح المجتمع، وبالتالي تخفيف أو تعليق هذه الإجراءات بعد اكتمال الحملة الشاملة للتحصين ضد الفيروس.

shakerabutaleb@