مرزوق بن تنباك

الفزع من التراث والفزع إليه

الثلاثاء - 24 نوفمبر 2020

Tue - 24 Nov 2020

التراث كلمة جامعة تعني كثيرا من الموضوعات والمضامين الواسعة المملوءة بأحداث التاريخ ومسيرة المجتمع، وما توارثه الأجداد وما خلفوه وراءهم من الأعمال والفضائل والانتصارات والهزائم، والموجب والسالب من العادات والتقاليد والقيم الرفيعة، وغيرها مما يحتفى به من التراث بعاداته وتقاليده، والأفكار والابتكارات وعلوم الاجتماع والسياسة والفلسفة وكل ما يتركه البشر وراءهم من أعمال نافع بعضها وضار البعض الآخر.

والأمة العريقة راسخة الجذور الممتدة في الزمن يكون تاريخها وتراثها غنيين بالأحداث التي يطمر بعضها بعضا، ويغطي آخرها أولها، وما تبنيه الأجيال وتصنعه في طور من أطوار التاريخ، إنما صنعته لزمانها، ذهبت ومعها ذهبت الحاجة إلى كثير مما صنعت، فيصير تراثها ركاما عميقا يثقل كاهل الباحثين الذين يسعون إلى تصنيف التراث وتمييزه، وتحديد ما يصلح للاستمرار والدوام منه، وترك الكثير الذي لا يواكب العصر ولا يوافقه ولا يصلح للحاضر، وإن كان درة في جبين الماضي، فليس كل تراث صنعه الأولون لحاجاتهم وزمانهم وظروفهم يصلح دائما ويستمر العمل به أبدا، بل لا بد من المراجعة والتفتيش والنظر والتصفية وتنقية التراث واختيار ما يحسن استمراره، وترك ما هو من حاجات الماضين وضرورات حياتهم وظروفهم التي قد لا تكون مناسبة ولا مشابهة لحاجات الحاضرين ومتطلبات حياتهم.

لكن الأمة في حالة ضعفها وعجزها تفزع إلى التراث وتستدعي الماضي، وتلوذ به عن الحاضر، وترى في ماضيها وتراثها ما يجمل حاضرها ويعوض النقص الذي تشعر به، ولا تجد بدا من استحضار رجال ذلك الماضي وأفعالهم وتعيدهم إلى الحياة وتضفي عليهم قداسة خاصة، وترفعهم فوق مستوى النقد أو المراجعة لما تركوا وأرّثوا، بل تصنع لهم الأساطير وتجعلهم فوق مستوى البشر وتزيد في حصانتهم وحمايتهم وتجرم من ينال منهم أو يشكك بما تركوه من أعمال، ومثل هذا لا يعد حماية للماضين ولا تقديرا لجهودهم وما قدموا، إنما ذلك شعور بالعجز والتقصير عنهم.

وفزع الشعوب الناجحة القادرة الفاعلة إلى التراث يحمل معاني كثيرة قد تستدعي تراثها للفخر به وبيان الإضافة الضخمة التي أضافها حاضرهم لماضيهم، فتأتي بشواهد التراث على قياس القفز إلى الأمام، وتنظر إلى خطها الصاعد في الإنتاج والتقدم الحضاري في الصناعة والزراعة والتعليم وغيرها، مما تشعر أنها حققته بعد عناء وكفاح وجهاد طويل، وقد لمست ذلك الفخر بنفسي عندما زرنا كوريا الجنوبية قبل عدد من السنوات، فكان الكوريون يضعون أمامنا صورا للحياة في كوريا الجنوبية قبل ثلاثين عاما، رأينا المدن والأسواق والناس والمزارع وغيرها، ورأينا العوز والتخلف الذي كان يخيم عليها، ثم يقارنون ذلك بحاضرهم وهم يحدثوننا بزهو وشعور بالفخر والامتنان الذي أحرزوه خلال هذه المدة القصيرة.

والناس يرون البون الشاسع بين مرحلتين متقاربتين لا يفصل بعضهما عن بعض أكثر من ثلاثة عقود، ومثل كوريا الجنوبية كانت سنغافورا، لا تتكلم مع أحد من سكانها إلا تشعر أنه فخور بما حققه السنغافوريون من نجاح باهر خلال فترة قصيرة، ويجعلون الدليل جارتهم الأم ماليزيا، وعليك أن تقارن بينهما لتجد أن لهم سببا مكينا فيما يذكرون من النجاح والتقدم، وقلما تسمع من أهل هاتين الدولتين حديثا عن التاريخ البعيد لهم، لأن نجاح حاضرهم أغناهم عن البحث في طوايا الماضي السحيق، فهم مشغولون لا يجدون وقتا للحديث عما فعله أجدادهم منذ مئات السنين، فذلك شأن لا يعنيهم كثيرا ولا يفكرون به ولا يتحدثون عنه.

أما الشعوب التي لا تجد شيئا تقوله عن حاضرها، فهي تفزع إلى التراث وتبحث عن رجال وجدوا منذ مئات السنين، فتحصنهم وتدافع عنهم وعما قاموا به من أعمال، ولا تسمح حتى لمن يستشكل أو يناقش أو يستفسر ولو من باب العلم بالشيء خير من الجهل به، حتى تقمعه وتلجمه وتجرمه بسيل من الفائض الذي يحسنونه، ولا يعرفون غيره، إنه الكلام وليس العمل، القول وليس الفعل.

Mtenback@