عبدالحليم البراك

قصة الجهل!

الاثنين - 20 يوليو 2020

Mon - 20 Jul 2020

في قصة لطيفة وبسيطة يطرحها أحد الفلاسفة، وهي حدث يومي يتكرر أمامنا، لكنه لا يلفت نظرنا كثيرا، وهو أن السيدة النائمة بعمق في غرفتها لا تزعجها أصوات مزامير السيارات القادمة من نافذة قديمة غير محكمة الإغلاق، ولا حجم إزعاج أبنائها الكبار يلعبون في صالون البيت، ولا يوقظها من نومها العميق جهاز التلفاز الذي يثرثر بالجوار، لكن حركة بسيطة من طفلها الرضيع النائم بجوارها على يدها توقظها، وصرخة بسيطة من طفلها تقلقها، فكيف تمت برمجة عقلها النائم على تجاهل أصوات السيارات والتلفزيون والأطفال، لكن الطفل الرضيع بحساسية عالية منها يوقظها من نومها؟ وكأنها أرسلت رسالة لعقلها تطلب منه الطلب الآتي «تجاهل كل الأصوات مهما كانت مرتفعة، إلا هذا الصوت، انتبه له، مهما كان منخفضا، أيقظني إن تحرك»، وهذا هو الإنسان يتجاهل بشكل مثير للغاية أشياء كثيرة في حياته وفق برمجة ذهنية عميقة، حتى إنه يتجاهل التجاهل نفسه، لدرجة أنه لا يشعر به أصلا، فلا تلفت نظره هذه الأشياء.

إذن نحن نتجاهل أشياء كثيرة، فماذا نتجاهل؟

  • نتجاهل ما لا نعرف، أو ما يصعب علينا معرفته، أو ما نشعر أن معرفته تجهدنا، تماما مثل الطفل الصغيرة الذي يتجاهل مسائل الرياضيات العميقة والصعبة، فكأنها ليست أمرا ذا بال لديه، فيتجاهل أهمية الواجبات ويلعب لأنه لا يعرف حلها، بل يتجاهل لأن عدم التجاهل يعني مزيدا من القلق، حتى نظن أن التجاهل لدى الطفل أمر فطري نشأ معه.





  • نتجاهل ما لا نشعر بأهميته، هل تذكرون الصراعات في العالم الإسلامي سابقا على مسائل الأسماء والصفات؟ هل تنازل الأشاعرة عن رأيهم الآن أم إن المعتزلة اختفت من المشهد العقدي والفلسفي؟ أم أهل السنة غيروا آراءهم؟ هل اختفت المذاهب الفقهية الأربعة التي كانت تتصارع في تاريخنا الإسلامي؟ الحقيقة أن الاختلاف لا يزال موجودا، وتلك المذاهب موجودة، والذي حدث أنها لم تعد مهمة بالنسبة لنا، فتجاهلنا الخلاف بيننا، فعشنا وتعايشنا مع بعضنا، بخلاف من قبلنا الذين لم يتجاهلوها فنقلت لنا كتب التراث تلك الصراعات لأنها مهمة بالنسبة لهم، ولم يتعايشوا مع بعضهم فكاد بعضهم لبعض حتى أورد بعضهم المهالك!





  • نتجاهل ما لا نحب، ألا تشعرون بأن ما لا نحبه في الحياة أكثر مما نحبه، فلا يشغلنا ولا يؤثر علينا، فلو أن كل ما لا نحبه أثر علينا لصارت كواهلنا مرهقة كثيرا في التفكير فيه، بالمناسبة هذا لا يشمل ما نكرهه فما نكرهه لا يزول ولا نتجاهله، فتبقى روح الانتقام، ولو تجاهلت ما تكره لكنت تحمل معاني إنسانية عميقة وعظيمة!





  • ونتجاهل أيضا ما نجهله، يقول دونالد رامسفيلد مشيرا إلى حدود معرفتنا الإنسانية «هناك أشياء معلومة وهي معروفة، وهناك أشياء نعرف أننا لا نعرفها فهي مجهولة معلومة الجهالة، وهناك أشياء مجهولة ونجهل أننا نجهلها»، فيصبح المجهول مجهولا ومجهول معرفة جهلنا به! ويقول الفيلسوف ديوي «نحن لا نحل المشاكل الفلسفية نحن نتجاوزها فقط».


أخيرا، هذه المقالة عما نجهل تساعدنا كثيرا في خلق تواضع إنساني كبير، وتعايش كبير مع ما نجهل، وتوظيف للجهل بطريقة إيجابية عند دراسته، كما أن التجاهل يخفف من أعباء الحياة على كواهلنا فننسى حتى لا تمتلئ ذاكرتنا فتكون مرهقة ونتجاهل حتى لا تكون عقولنا كمستودعات يتراكم عليها الغبار فنخرج منها ما لا نريده، أرجو من القارئ العزيز ألا يتجاهل هذا المقالة في ذهنه إن راقت له!

Halemalbaarrak@