عبدالحليم البراك

جمالية ما لا يقاس!

الاثنين - 06 يوليو 2020

Mon - 06 Jul 2020

كل ما لا يقاس مجال للتفاوت البشري، فلا يمكن حسمه نهائيا، وكما قيل في المثل الإنجليزي الشهير «ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته» وهذه الصفة - صفة التفاوت البشري - لا تحمل في طياتها أي ثناء أو ذم بحد ذاتها، فالتفاوت قد يكون صفة جميلة تقدمية، أو صفة محايدة أو صفة غير محمودة، ومهما يكن من أمر، فإن ما لا يقاس هو نوع من الوحدات الجمالية، فكلما اختفت الرياضيات الحاسمة اختفت الصرامة، وكلما تلاشت الفيزياء صارت الجمالية نسبية، فلا أحد يمكن أن يفرض على أحد رأيه وجماليته، وبهذه الطريقة يمكن أن يكون المقياس هو أنت. وأنصح الأصدقاء بأن يتعرفوا على هذه القاعدة، حتى يمسكوا هذه الفكرة سوطا لكل من يعارض أفكارهم الجمالية!

ولو كان جمال لوحة فنية يقاس وفق أرقام لصارت الأرقام فيصلا واختفى ذوق الإنسان، فما فائدة أن تقول إن هذه اللوحة هي الأجمل، والأرقام تكذّب ذلك، لكن عندما تقول: هي الأجمل وليس ثمة ما يحسم الأمر، تصبح الجمالية حقا مشاعا لكل متذوق، وبدلا من لوحة واحدة جميلة لديك عشرات اللوحات الجميلات، وانتقِ بذائقتك ما تشاء منها، لكن أحذرك أن يطال ذوقك ما اتفق الناس على بشاعته مستدلا «بجمالية ما لا يقاس».

وكذلك الرواية، إذ إن الرواية لا تخضع للمنطق الرياضي الصارم الذي يتم تحليله بكلمتي: يساوي أو لا يساوي، أو: صح أو خطأ، أو: ينطبق أو لا ينطبق، أو بعبارة: تم إثباته أو لا يمكن إثباته، بل الرواية لغة يتذوقها الإنسان فتختلف ذائقته حتى تجد في فضاء القصة والحبكة والحكاية عشرات الروايات، وكل واحدة تقول لأختها أنا الأولى في الجمال بلا إثبات، إلا إثبات الدهشة والذائقة والحداثة و»انطباق الشروط»، وأؤكد على «انطباق الشروط» حتى لا تختطف الجمالية، لتصبح تلك التي لا يمكن وصفها بالرواية بأنها رواية بدعوى أن الجمال لا يقاس!

الموسيقى والأغنية لا يمكن قياسهما، ولا قياس الذوق فيهما، ولذلك لا يمكن إلا أن نقول عن شعر القصيدة إلا أنه جميل، لكن الأول والأفضل يخضع للذوق، وكذلك ما يطربك من الموسيقى قد لا يطرب غيرك، فذوقك سيدك، وليس ثمة سيد آخر في الأذواق، لكن أحذر النشاز يمكن قياسه بالإزعاج الذي يسببه فيرفض جملة وموضوعا.

وربما كان التصوف هو الآخر لا يخضع للأنظمة الصارمة مثل الصواب والخطأ، بل يخضع للمناسب لكَ أو غير مناسب لا أكثر، أو ما يدخلك أجواء الحب أو لا يدخلك، وما يبث فيك أجواء الطمأنينة وما لا يجعلك تطمئن، ولا تنفع أدوات القياس فيه، والمقياس الوحيد فيه هو الإيمان والحب واللطف والعطف!

ويمكن القول إن للأشياء غير المقاسة لذة لا يفسدها إلا تقنينها، وعلينا أن نستمتع بما يجعل قياس الأشياء في داخلنا لا من خارجنا، وأن نسعد في رؤيتنا وقناعتنا ولذتنا ومحبتنا للشيء هي التي تحكمنا لا محبة الناس له أو قناعتهم فيه، وغير المقاس هو الهامش الذي نحبه، وهو الهامش الإنساني الذي نتفاوت فيه ونتمايز فيه، بل إن جيلا قد لا يفضل فنا أو لونا أدبيا فتنقلب أدبيات الجمال من هذا الجيل إلى الجيل الذي يليه، فيحتفي الجيل التالي بالمنتج القديم ويقول عن صاحبه إنه سبق عصره.

متعكم الله بالجمال الذي لا يقاس، وأسبغ عليك حبا لا يقاس، و شنّف اسماعكم بما يسركم مما يقاس ولا يقاس!

Halemalbaarrak@