طلال الشريف

مراكز الفكر.. الأثر والتأثير

الأربعاء - 20 مايو 2020

Wed - 20 May 2020

خط الدفاع الأول دون مبالغة في حماية مصالح الدول والمحافظة على مكانتها والتنبيه إلى المخاطر التي تتعرض لها تلك المصالح هو وجود مراكز للدراسات والأبحاث أو ما يطلق عليها مراكز الفكر، وانتشارها وفاعليتها مؤشر على التطور الحضاري والاهتمام بالبحث العلمي، وذلك بإنتاج الأفكار والرؤى والاستراتيجيات وصناعة السياسات وإعادة قراءة وتوظيف المعلومات لصالح القضايا الوطنية والإقليمية والدولية، ودعم صناع القرارات بالتحليلات العميقة والتوصيات تجاه قضاياهم الوطنية، خاصة في ظل التحولات والتعقيدات وتشابك المصالح والمصير المشترك الذي يواجه عالمنا اليوم والتحديات الكبرى المتمثلة في النزاعات الإقليمية والدولية، والجماعات الإرهابية والمتطرفة، والحرب بالوكالة، وانتهاكات سيادة الدول، ومشكلات الفقر، وصناعة الأوبئة ونشرها، والفساد الدولي، وغيرها كثير.

ومراكز الفكر لا تخرج على ثلاثة أشكال تتشابه في أدواتها وآلياتها وممارساتها وقيمتها الفكرية بدرجة كبيرة، وتختلف وتتباين في أهدافها ومجالاتها ومستوى تأثيرها: فهناك مراكز فكر أكاديمية يغلب عليها الطابع الأكاديمي تهتم بإعداد الأبحاث والدراسات والكتب وتنظيم المؤتمرات، والتركيز على مناقشة القضايا الأكاديمية، ومراكز فكر مختلطة تجمع بين الطابع الأكاديمي الصرف وبين مراكز الفكر المستقلة، ومراكز فكر مستقلة تهتم بالدراسات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المحلية والدولية، وتكتب التقارير، وتنظم المؤتمرات، وتصدر الدوريات المتخصصة، وتواكب الأحداث، وتقدم التحليلات العميقة، وترتبط بعلاقات جيدة مع دوائر صناعة القرارات الوطنية.

ولكن تبقى مراكز الفكر الخاصة والمستقلة هي غاية الدول المعاصرة والمتطورة، وذلك لفائدتها الكبرى في اكتشاف المشكلات والتنبؤ بها قبل وقوعها بوقت كاف، وقدرتها على إعادة اكتشاف الموارد والطاقات الوطنية، وبلورة الخيارات والبدائل المناسبة للتعامل مع المشكلات والقضايا والأحداث المختلفة، وتشكيل الرأي العام المحلي والدولي، وتتويج ذلك بتحويل أفكارها إلى سياسات وطنية محلية ودولية، وهي بالفعل أحد مرتكزات القوة الناعمة بسبب تأثيرها على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي والأمن الوطني، ونماذجها المميزة والمؤثرة في وقتنا المعاصر على المستوى الدولي كثيرة، مثل: مركز كارنيجي للسلام، ومعهد بروكنجز، والمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية IISS في لندن.

ونماذجها على المستوى الإقليمي قليلة جدا وذات تأثير محدود، مثل: مركز أبحاث الخليج، ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ومركز الإمارات للدراسات والبحوث، ومركز القاهرة للدراسات الاستراتيجية، ومركز قطر للدراسات الاستراتيجية، والمعهد الدولي للدراسات الإيرانية (رصانة).

ومع أن رؤيتنا السعودية 2030 التنموية أظهرت توجه الحكومة لتسهيل إصدار التراخيص لإنشاء مراكز للفكر والدراسات والأبحاث، إلا أنه وبعد مضي خمس

سنوات من الرؤية لم تظهر أي مراكز للفكر ذوات صيت ذائع، بخلاف مراكز الفكر التي ظهرت قبل الرؤية وزاد نشاطها الفكري بشكل ملموس إلى حد ما، مثل مركز أبحاث الخليج، ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ومركز الأمير عبدالمحسن بن جلوي للبحوث والدراسات الإسلامية، ومركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام.

ويرجع ضعف وغياب مراكز الفكر الوطنية الخاصة المستقلة المؤثرة لعدد من الإشكالات، أبرزها غموض هوية المراكز وأهدافها وبرامجها، وضعف العلاقة مع دوائر صناعة القرار الوطني، وقلة المتخصصين والخبراء في الدراسات المستقبلية، وفي فهم وقراءة واقع ومستقبل القضايا والتحديات الوطنية، وضعف جودة منتجاتها الاستراتيجية والبحثية واهتمامها بتحليل الأحداث الجارية والظهور الإعلامي، وضعف الشراكة والتكامل مع المؤسسات الحكومية والإعلامية ومع مراكز الفكر المماثلة الإقليمية والدولية المؤثرة، وضعف التمويل الكافي المستقل والمحايد من قبل الحكومة ومن قبل القطاع الخاص والمزايا المادية والمعنوية للخبراء والباحثين المميزين.

ولأن مراكز الفكر مهمة لصانعي السياسات ومتخذي القرارات الرشيدة في وطننا، فإنه يقع على عاتق الحكومة وضع استراتيجية واضحة ومعلنة لدعم وتطوير مراكز الفكر الخاصة القائمة بالمال والخبراء، والمشاركة الفعلية في عمليات رسم السياسات واتخاذ القرارات الوطنية وتعزيز العلاقات بينهما، في إطار من الشفافية العالية والاستقلالية والحرية في مناقشة القضايا الوطنية، ليس ذلك فحسب، بل وتشجيع القطاع الخاص كمؤسسات ورجال الأعمال كأفراد على استحداث وإنشاء مراكز للفكر متطورة ومتخصصة على أعلى المواصفات ومجهزة بأحدث التقنيات، والاستفادة من الكفاءات الوطنية والأجنبية الخبيرة في الجامعات بما لديها من مخزون فكري للعمل في هذه المراكز بنظام التفرغ الكامل والجزئي دون قيود. وأحلامنا وطموحاتنا أن نرى العشرات من

مراكز الفكر الخاصة على طول وعرض بلادنا بما يوازي مكانتها الدولية على جميع المستويات.

@drAlshreefTalal